الأســــــدي

الأســــــدي

عبد الخالق كيطان

حين نزلنا من جسر الجمهورية لنصل الى مبتغانا في ساحة التحرير وقف خليل الأسدي ليشعل سيجارته بينما أدرت رأسي نحو منقلة في فرع جانبي تنبثق منها روائح شواء،

تبين لي لاحقا أنها مجرد شحوم محترقة لجذب الزبائن النادرين وسط جوع شامل في بغداد 1994. قال لي الأسدي بعد أن أشعل سيجارته ورآني متسمرا أمام المشهد الذي أعجز عن النفاذ إليه: عبئ ما استطعت من دخان المشويات فهو غداؤك اليوم.

كان خليل الأسدي مفلسا على الدوام. واعتياده ذلك جعله لا يتوقف كثيرا أمام روائح المشويات التي كانت تطربني. يكفيه علبة سجائر وكأس في آخر الليل. في السنوات التي تعرفت فيها إليه كان الأسدي قد وصل إلى الزهد التام. لم تعد الدنيا تغريه. عجبت يوما لأنه بدأ يستلطف فتاة متدربة في الجريدة التي كنا نعمل فيها بصفة مصححين لغويين. دفع لها قصيدة ساخنة كان كتبها للتو. ابتسمت المتدربة ومضت في طريقها. أدرك الشاعر الذي فيه إنه لا يستطيع أن يقدم لها سوى القصيدة… والصمت. وهو ما كان.

وبالرغم من أن تجربته الشعرية محسوبة على جيل السبعينيات إلا أن قصيدته، التي يكتبها وكنت أقرأها في التسعينيات، هي أقرب ما تكون للقصيدة التي كان يكتبها أبناء جيلي، وأنا منهم طبعا. هل السبب في ذلك حساسية شعرية تنتبه للجديد أو أن الوضع العام في العراق، ذلك الوضع المأساوي في التسعينيات، هو الذي قاده لما قادنا، واقصد تحديدا القصيدة اليومية؟

ربما استمر عملنا معا في جريدة القادسية، وفي قسم التصحيح اللغوي تحديدا، لمدة عام كامل. وفي هذا العام تعرفت إلى مواهب خليل الأسدي اللغوية والمعرفية، ناهيك عن الشعرية. شاعر مخلص لقصيدته، لم يلوثها بأي طريقة كانت. ولقد كان التلوث في تلك الأيام سمة، فيما الراسخون في المعصية قلة منبوذة. كل واحد من هؤلاء يختفي خلف درع من الخوف الصقيل.

قرأت نصوص خليل الأسدي باهتمام بالرغم من أنني كنت أرفع راية القطيعة، وبالمناسبة: من يتذكر اليوم مثل تلك المصطلحات؟ لقد كنا نتوقف كثيرا أمام تجارب القلة من شعراء السبعينيات ولم يكن الأسدي من هؤلاء القلة. لماذا؟ هل نلقي باللوم على النقد؟ الإعلام؟ السياسة؟ أو أن الأجيال اللاحقة، ممثلة بي هنا، كانت عمياء إلى هذه الدرجة؟

ومع اكتشاف قصيدة الأسدي الزاهدة، وزهد شاعرها بالطبع، كنت أتمرن على الإصغاء، وخاصة في حضرة الشعر الذي يأسرني.. وشيئا فشيئا بدأت ابتعد كثير عن شعر البدايات الذي انغمست فيه سابقا. ومن المؤكد أن المؤثرات التي مرت علي، إنسانيا وشعريا قد لعبت لعبها بي.

المؤسف أن أمثال خليل الأسدي يمرون في حياتنا بصمت باذخ ويغادرون بالصمت ذاته. لا أريد هنا سوى التلويح لذكراه.. ذلك النحيل الذي رثاني أمام دخان المشويات فعرفت حينها كم صعبا أن تعيش في الحرمان الدائم دون أن ترمش عينك.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top