قراءة ليبرالية لأفكار الميكافيليين

آراء وأفكار 2023/01/31 11:56:39 م

قراءة ليبرالية لأفكار الميكافيليين

فين أندرين

ترجمة:عدوية الهلالي

على الرغم من نشركتاب (الميكافيلليون:المدافعون عن الحرية) في عام 1943، إلا أنه كتاب يستحق الاهتمام المستمر. ومع ذلك، فإن هذا العمل الهام لعالم السياسة جيمس بورنهام (1905-1987) لا يزال غير معروف لعامة الناس وأحيانًا حتى بالنسبة للأكاديميين. حتى وقت قريب، صدرت النسخة الإنجليزية الوحيدة الأخرى في عام 1964. ولم يُترجم هذا الكتاب إلى الفرنسية منذ عام 1949.

تأتي مراجعة أفكار المفكرين الميكافيليين في الوقت المناسب بسبب الوضوح السياسي الذي يمكن أن يجلبوه للشباب اليوم، خاصة في وقت يخضع فيه النموذج الديمقراطي لأزمات الشرعية في العديد من البلدان.

وبالفعل، فإن الدروس الرئيسية من هذا العمل الذي قام به بورنهام وثيقة الصلة بشكل خاص بما يجري اليوم. وهي تتعلق بشكل أساسي بالمنظمات السياسية وانعكاساتها على الديمقراطية الحديثة كنظام سياسي قابل للحياة ومستقر.

وستدرس هذه المراجعة أيضًا أوجه القصور في الفكر السياسي الميكافيلي من منظور ليبرالي، أي النظرية المتخلفة عن الدولة وتعريف بورنهام الضعيف للحرية. فقد منعت أوجه القصور هذه بورنهام من اقتراح حلول ذات صلة للمشاكل السياسية المتأصلة في الديمقراطية.

ويقدم الميكافيليون أفكارًا ظلت على هامش النظرية السياسية السائدة طوال القرن العشرين. وحتى في يومنا هذا، فإنهم لا يتوافقون مع الفكرة الراضية التي يقولها الغرب لنفسه باعتباره تجسيدًا ناجحًا للديمقراطية والمساواة. وعادةً، لا يتم تقديم المؤلفين الميكافيليين أبدًا إلى طلاب العلوم السياسية، مما يجعل من المؤكد تقريبًا أن أفكارهم ستبقى مجهولة إلى حد كبير.

ويمكن اعتبارالنهج الميكافيلي للسياسة نهجا غير عاطفي وواقعي. إنه ميكافيلي لأنه ليس لديه أجندة سياسية، الأمر الذي قد يكون مزعجًا للبعض: إنه أسلوب لا يحكم على ما إذا كان النظام السياسي جيدًا أم سيئًا. بل يكتفي بمراقبة شؤون الافراد من بعيد،لا سيما كأعضاء في منظمات سياسية، ثم استخلاص النتائج.

لم يكن مكيافيلي نفسه علميًا تمامًا مثل الطريقة التي تحمل اسمه اليوم، فقد تأثر عمله بوقته وبالوضع الشخصي الذي وجد نفسه فيه. ومع ذلك، لا يزال عمله ثوريًا في ذلك الوقت، من خلال صدقه وموضوعيته على السلطة والسياسة.لذلك ركز بورنهام على التقاليد السياسية الميكيافيلية، وليس على الفرد نفسه،على الرغم من أن رؤية مكيافيلي للسياسة هي نقطة البداية، إلا أن التقليد السياسي الميكافيلي تم تطويره بشكل أساسي من قبل المفكرين الذين اتبعوا خطواته بوعي تام.

كان هؤلاء المفكرون مشتركون في حقيقة أنهم جميعًا رأوا "موضوع السياسة على أنه صراع على السلطة الاجتماعية"، بغض النظر عن نوع النظام السياسي. لقد كانوا مؤمنين إيمانًا راسخًا بكونهم دائمًا متشككين في الرسائل السياسية وبدلاً من ذلك يسعون جاهدين للكشف عن الدوافع والمصالح الحقيقية الكامنة وراءها. في الواقع، تعتبر فكرة سوريل عن دور الأسطورة في السياسة مهمة في هذا الصدد لأنها تسمح للقادة السياسيين بالتأثير على الجماهير غير المهتمة سياسيًا.

ويمكن القول إن المفكرين الذين تأثرت ثقافتهم السياسية بشدة بآلاف السنين من صراعات السلطة والمكائد السياسية المتطورة لا يؤمنون بالتقدم السياسي للبشرية. وهكذا يمكن وصف الميكافيليين بأنهم واقعيون، وحتى ساخرون، وليس لديهم أوهام بشأن السياسة وممارسة السلطة. كما انهم يفتقرون إلى الابتكار في النظرية السياسية - وهذا عن وعي - لأنهم ليس لديهم ادعاء باقتراح أي شيء جديد أو أفضل، اذيصفهم بورنهام بأنهم "متشائمون اجتماعيون": فهناك بالفعل ميل تشاؤمي واضح للفكر الميكافيلي، عبر عنه سوريل صراحة.

ان الفكر السياسي الميكافيلي ليس معياريًا ولكنه عملي. إنه علم سياسي، لكنه ليس فلسفة سياسية، لأنه لا يقوم على أي مجموعة من المبادئ الأخلاقية الإرشادية. إنه تحليل لا قيمة له للسلطة السياسية، وليس له أي أيديولوجية أو هدف سياسي.

من ناحية، فإن هذه الموضوعية في تحليل السياسة جديرة بالثناء ونادرة، وسمحت لهؤلاء المفكرين باكتشاف حقائق سياسية لم يكتشفها مفكرون آخرون أكثر تحيزًا أيديولوجيًا. لكن من ناحية أخرى، فإن هذا النهج العلمي للمراقب الموضوعي والنزيه يجعل من الصعب تقديم حلول للمشاكل السياسية التي يكشفها هذا العلم ببراعة.

كشف الميكافيليون النقاب عن المبادئ الاجتماعية والنفسية الأساسية حول المنظمات والسلطة السياسية. ووفقًا لبورنهام، فإنهم "يشكلون طريقة للنظر إلى الحياة الاجتماعية، وأداة للتحليل الاجتماعي والسياسي"، ومن الأفضل لعلماء السياسة الحديثين أن يأخذوها في الاعتبار إذا كانوا يريدون تحليل السياسة بشكل صحيح. ويتم عرض أهم هذه المبادئ في المقاطع التالية.

ويبدأ الفكر السياسي الميكافيلي بالفكرة الواضحة بأن جميع المنظمات البشرية بحاجة إلى قادة. على وجه الخصوص، فإن الرجال والنساء الذين تطوروا ليصبحوا قادة المنظمات السياسية هم، على حد تعبير برنهام، "أولئك الذين يأخذون الصراع على السلطة على محمل الجد". ويميلون إلى امتلاك بعض الصفات الشخصية المحددة، مثل المهارات السياسية المتطورة للغاية، والذكاء الحاد، فضلاً عن الحافز الكبير والقدرة على العمل.وبمرور الوقت، تميل مصالح القادة بطبيعة الحال إلى الاختلاف عن القواعد الشعبية في منظمة سياسية حيث يبدأ الجميع على نفس المستوى. والشخص الذي يكرس جزءًا كبيرًا من وقته وجهده (وأحيانًا ثروته الشخصية) لمنظمة ما، يتوقع بطبيعة الحال أن يستفيد منها أكثر من أي شخص يشارك كعضو سلبي. ويميل القادة أيضًا إلى التأثر النفسي ويميزون أنفسهم عن الأعضاء الآخرين.

وإن الحجم والتعقيد الهائل لمنظمة ناضجة تمنع بطبيعة الحال جميع أعضائها من المشاركة على قدم المساواة في عملية صنع القرار. وتضطر المنظمة إلى إدخال تقسيم العمل بين الأعضاء، لأن زيادة تنوع المهام وتعقيدها يتطلب التخصص.ويجب التمييز هنا، وهو ما لا يميزه برنهام، بين التنظيم التجاري والتنظيم السياسي. إن وجود الأقليات الحاكمة لا يطرح مشاكل للمؤسسات التجارية لأنها تخضع لرقابة شرعية من قبل قادتها وأصحابها. على عكس المنظمات السياسية، فلا يوجد غموض أو سرية عندما يتعلق الأمر بالسيطرة على منظمة تجارية.

و يجب التأكيد على أن وجود طبقة حاكمة أقلية هو سمة عالمية لجميع المجتمعات المنظمة. وهي صالحة مهما كانت الأشكال الاجتماعية والسياسية، سواء كان المجتمع إقطاعيًا أو رأسماليًا أو عبدًا أو جماعيًا أو ملكيًا أو أوليغارشيًا أو ديمقراطيًا، مهما كانت الدساتير والقوانين ومهما كانت المهن والمعتقدات.وبالتالي فإن هذه القاعدة تشمل أيضًا "الديمقراطيات الليبرالية" الحديثة، مما يساعد على تفسير التوترات السياسية الموجودة اليوم في هذه الأنظمة.

ومع ذلك، فإن بنية سلطة الأقلية الحاكمة والأغلبية المحكومة ليست مستقرة تمامًا على الإطلاق. اذ يتم إعادة إنتاج النخبة السياسية وتجديدها، بشكل جذري في بعض الأحيان، للحفاظ على قبضتها على السلطة.

وتظهر الدراسات التاريخية والاجتماعية الهامة التي أجراها الميكافيليون أن جميع المنظمات السياسية تقودها أقليات أوليغارشية منظمة، بدلاً من الأغلبية غير المنظمة ذات الإرادة الديمقراطية.وهكذا،فإن جميع المنظمات السياسية تصبح أقلية مع تطورها وتنضجها. وتُظهر دروس التاريخ أن الطبقة الحاكمة نادراً ما تستطيع البقاء في السلطة لفترة طويلة إذا لم تكن مستعدة لفتح صفوفها أمام أعضاء جدد قادرين وطموحين.

بعبارة أخرى، فإن أكثر الأنظمة السياسية نجاحًا واستقرارًا هي تلك التي تعتمد على "تداول النخب"، حيث يتم استبدال قادة المجتمع تدريجياً مع انضمام قادة جدد إلى الأنظمة القائمة. ومع ذلك فعملية تجديد النخبة هذه، وتطورجميع الأنظمة السياسية نحو نظام حكم الأقلية يشكل معضلة بالنسبة للديمقراطيات.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top