قابيل وهابيل بين الأسطورة والدين

آراء وأفكار 2023/03/01 10:42:33 م

قابيل وهابيل بين الأسطورة والدين

سلام حربه

الثقافة السومرية تختلف عن كل الثقافات والحضارات التي تلتها بانها ثقافة زراعية، المواطن السومري هو أول من مارس مهنة الزراعة، ممارسة هذه المهنة تعني الاستقرار وبناء المدن والتخلص من مرحلة الرعي التي تستوجب ان يبقى الانسان في بحث دائم عن الماء والكلأ ولا مستقر له،

هذا التحول الاجتماعي والاقتصادي من مرحلة الرعي الى زراعة الارض دونها السومريون قبل اكثر من خمسة الاف سنة في ثلاثة اساطير، لأهمية هذه المرحلة التاريخية بالنسبة لهم، تجسد انتصار الزراعة على الرعي وتقبل الاله انليل كبير الالهة الهدايا من المزارع وليس من الراعي وهذه الاساطير الثلاث هي..اسطورة (ايميش وانتين) وقد كتبت في ثلاثمئة وثمانية سطور على الالواح الطينية حين يحصل خصام بين ايميش الراعي وانتين المزارع فيذهبان الى الاله انليل للاحتكام، انليل يفضل المزارع..

لقد أجرى انتين ماء الحياة في كل بقاع الارض/ وأنتج للالهة كل شيء/ فيا ايميش يا بني، كيف تقارن نفسك بانتين اخيك..؟/ انحنى ايميش وركع انتين، تصالحا/ اي انليل، أيها الاب، نسبح بحمدك..

اما الاسطورة الثانية فتسمى (لهار وأشنان) وقد خلقتهما الالهة، لها راع وأشنان مزارعة، ولم تستطع الالهة الاستفادة منهما بشكل تام..

في تلك الايام في حجرة الخلق/ في دولكوج بيت الالهة، خلق لهار واشنان/ ومما انتج لهار واشنان/ اكل الهة الانانوكي، ولكنهم لم يكتفوا/ ومن حظائرهما المقدسة شربوا اللبن ولكنهم لم يرتووا/ لذا من اجل العناية بطيبات حظائرها، جرى خلق الانسان..

يحكم انليل وانكي بالغلبة الى اشنان المزارعة وهذا يعني السيادة للزراعة على الرعي..اما الاسطورة السومرية الثالثة في سفر قابيل وهابيل فهي اسطورة (انكمدو ودموزي) تصور الاسطور الالهة عشتار(انانا) وهي تبحث عن زوج فيتقدم لطلب يدها كل من دموزي الراعي وانكمدو المزارع ولكنها تختار انكمدو المزارع وتقتل دموزي الراعي..

أنا العذراء سأتزوج المزارع/ الفلاح الذي يزرع النباتات ويعطي الغلال الوفيرة/ الفلاح الذي ينتج الحبوب الغزيرة..

سفر قابيل وهابيل السومري (ايميش وانتين) يمثل مرحلة تاريخية مهمة في الحضارة السومرية بسبب نشاط الزراعة في ارض سومر كونها ارض غرينية تساعد على انتاج الغلة والحبوب، لكن السارد السومري اضاف احداثا في الاساطير المتأخرة بان جعل صراعا بين قابيل وهابيل في موضوع زواجهما من اختيهما بحيث يضطر قابيل ان يقتل هابيل انتقاما وغيرة منه. هذه جريمة القتل الاولى التي حصلت في التاريخ انتقلت الى الشعوب والحضارات المختلفة لكن تحت مسميات اخرى واحداث تاريخية مغايرة ولكن مضمونها واحد هو حصول جريمة قتل اخ لاخيه كما صورته الحضارة المصرية القديمة والتي تمثلت بقتل سيت لأخيه اوزوريس الذي مزق جسده ووزع الاجزاء على مختلف الاقاليم المصرية القديمة ال 42. كانت الاسطورة المصرية تتحدث عن الصراع بين الخير والشر..هذا السفر السومري وجد في الاديان السماوية ومنها الديانة اليهودية حيث تبدلت اسماء الاخوين بدلا من ايميش وانتين الى قايين وهابيل، لقد اطّلع العبرانيون الرعاة على النص السومري حين تم جلبهم الى بابل في السبي البابلي لليهود حيث تعرفوا على هذا السفر الدرامي فاعاد كتبة التوراة القصة من جديد واضافوا لها مضامينا ونهايات صراع مختلفة عما ورد في النص السومري، كما نسبوا قايين وهابيل الى آدم وحواء حين نزلا الى الارض ليعملا ويحصلا على قوتهما بعرق جبينيهما، انجبت حواء ولدين الاول قايين المزارع وهابيل الراعي. العبرانيون اختلف وضعهم في بابل وهجروا الرعي وزرعوا الارض وبنوا المدن بعد ذلك. الرب يهوه تقبل من هابيل الراعي ولم يتقبل من قايين المزارع هديته، هذا القبول جسده العبرانيون تعبيرا عن مرحلتهم الرعوية السابقة واحترامهم لها ولكن قتل قايين المزارع لاخيه هابيل الراعي في النص التوراتي يعني انتصار الزراعة على الرعي في النهاية..(وحدث بعد ايام ان قايين قدّم من ثمار الارض قربانا لل رب/ وقدم هابيل أيضا من ابكار اغنامه ومن سمانها/ فنظر الرب الى هابيل وتقدمته والى قايين وتقدمته لم ينظر/ فدفعت الغيرة قايين الى قتل هابيل ودفن جثته في الصحراء / فشق على قايين جدا وسقط على وجهه/ فقال الرب يهوه لقايين: لم شق عليك وسقطت على وجهك..؟ الا انك ان احسنت تنل/ ان دماء اخيك صارخ الي من الارض/ والان فانت ملعون في الارض التي فتحت فاها لتقبل دماء اخيك من يدك..) العهد القديم سفر التكوين، 5:4.. القرآن الكريم تطرق الى جريمة القتل الاولى قابيل لاخيه هابيل ولكن النص القرآني لم يذكرهما بالاسم بل اكتفى بالاشارة اليهما والى الجريمة البشعة..(وأتل عليهم نبأ إبني آدم بالحق اذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الاخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين..) سورة المائدة 27..هذه الجريمة قتل الاخ لاخيه وسيلان الدم بقيت تقض مضجع البشرية كلها حتى ان الرسول الكريم محمد (ص) ذكرها ايضا في احد احاديثه التي رواها عمر بن حفص بن غياث، حدثنا أَبي، حدثنا الاعمش، قال حدثني عبد الله ابن مرّة عن مسروق عن عبد الله قال، قال النبي محمد (ص) (ليس من نفس تقتل ظلما الا كان على ابن ادم الاول كفلُ من دمها، لانه الاول من سن القتل..) كما روت العامة عن الامام جعفر الصادق (ع) انه قال: قتل قابيل هابيل وتركه في العراء لا يدري ما يصنع به فقصده السباع فحمله في جراب على ظهره وعكفت عليه الطير والسباع تنتظر متى يرمى به فتأكله، فبعث الله غرابين فاقتتلا فقتل احدهما صاحبه، ثم حفر بمنقاره وبرجله ثم القاه في الحفيرة وواراه وقابيل ينظر اليه فدفن اخاه..كلام الامام تاكيد لما جاء في الاية القرآنية الكريمة..(فبعث الله غرابا يبحث في الارض ليريه كيف يواري سوأة أخيه، قال ياويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأوراي سوأة اخي فاصبح من النادمين..) المائدة 27: 31.

لقد مات هابيل وترك احفاده الرعاة وهم يراوحون في مكانهم ويراقبون الدورة المناخية وينتقلون حيث يوجد الماء والكلأ دون ان يكون لهم اية مساهمة في حضارة البشر وتقدمهم في حين ان احفاد قابيل المزارعين بنوا المدن وتشكلت منهم مراحل التطور التاريخية من إقطاع وراسمالية وثورة صناعية ما زال مرجل الحياة في نمو وتصاعد من اجل ان تصل البشرية الى نهاية التاريخ والوعي الكامل للحرية..اسطورة قابيل وهابيل السومرية أشرت وقبل الاف السنين الشرور التي تكمن ليس في ارواح البشر فقط بل حتى عند الالهة وهي من دعت الى التخلص من آثار المجتمع الرعوي والانتقال الى المجتمع الزراعي من خلال ابتكار الكتّاب لهذا السفر العظيم وتمثيل فداحة التطور الذي يتم من خلال قانون نفي النفي، الجديد ينفي القديم وقد تم توظيف عملية القتل كأداة نفي للتخلص من نمط الانتاج الاجتماعي القديم واستبداله بعلاقات انتاجية جديدة اكثر استجابة لرغبات البشر. يبقى السومريون من صناع الحياة والتاريخ والعقائد والافكار والخيال والكتابة وهم أول من وضعوا الاقوام كافة على سكة الحضارة والتقدم..

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top