بابل  ذاكرة منسية لسينما نقية

بابل ذاكرة منسية لسينما نقية

علي الياسري

أظهر النقد القاسي والتجاهل المُتَعَمّد لفيلمي بابل وشقراء في موسم الجوائز ان الحقيقة اصعب من الاحتمال دائمًا. يكفي النظر للافلام الرديئة التي فازت حتى تدرك ان ما فعله داميان شازيل وأندرو دومينيك بوضع يدهما في عش دبابير هوليوود شجاعة تحسب لهما.

فهما مثلًا على عكس روبرت ألتمان بفيلمه اللاعب والذي قال عنه انه "هجاء معتدل للغاية لا يسيء إلى أحد" لم يحاولا تجنب التعرية لما يحصل في كواليس الصناعة بل سعيا اليها بكل اصرار. في الجانب المظلم لهوليوود هناك الكثير من الوحشية اوضحها فيلم بابل حين مضى لرسم ملامح حقبة سقط فيها نجوم السينما الصامتة من اضواء النعيم ومتعه اللامحدودة الى سواد الجحيم والانكار والحرمان بعد ان دخل الصوت الى الصناعة فتغيرت قواعد اللعبة الى الابد.

اذا كان فيلم الغناء تحت المطر يقدم صورة مبتهجة لنجوم السينما الصامتين الذين لم يتكيفوا مع الحديث فإن بابل يشرح بتمعن صادم احيانًا وجهة النظر الأخرى لذلك العالم الداخل في طور الافول. بابل هو النسخة القاتمة والواقعية لخيال الغناء تحت المطر المُنمق.

يبني المخرج شازيل قواعد فيلمه في صحراء لوس انجلوس حيث القصور الفارهة نماذج لعالم ناشئ بلا ثوابت او معايير او حتى قيم اخلاقية سوى رغبات صانعيه البكر وفضاءات خيالاتهم. إنها هوليوود التي لم تكتشفها النخب بعد لتفسدها. الغرب المتوحش للسينما تلعب فيه الفردانية دور البطولة كجذوة ابداع مجنون ورفاهية ماجنة حيث كل شيء لم يُبنى بعد وفق سياقات المقبول ومغايره والظاهر المزيف والباطن الصادم. لم يكن عالم السينما في ذلك الوقت شبيهًا بما يوجد اليوم. ففي العشرينيات الصاخبة، الأيام التي سبقت نُظم الرقابة وفق قانون هايز -قانون إنتاج الأفلام ‏وهو مجموعة تعليمات للرقابة الأخلاقية التي حكمت صناعة الأفلام الأمريكية والصادرة عن الشركات الرئيسية من عام 1930 الى 1968. عُرف بقانون هايز وذلك نسبةً لرئيس الرقابة في هوليوود آنذاك ويل هاريسون هايز. وفيه يكون على الاستوديوهات الكبرى اتباع رقابة ذاتية على محتوى اي فيلم تنتجه-. كان في عالم الصور المتحركة بأمريكا ذلك الزمن كل شيء مباح ومسموح به. فضاء يتسع مداه لأقصى جنون الحريات والابداع. يرمي شازيل ثقله خلف رسم هذه الصورة بتفاصيلها السلوكية الاستثنائية ليصور لنا كيف أمكن للمكسيكي الذي يقود شاحنة أن يصبح مخرجًا أو منتجًا في غضون بضعة أشهر. وكذلك الأمر نفسه مع الممثلين والممثلات فلم يكونوا بضائع يتم تسويقها وفق توجهات معينة بقدر ما كانوا بشر مغامرين جذبهم سحر السينما ومباهج الثروة والشهرة. لم يكن عالم المال وجشع رجالاته قد اكتشف بعد كيفية استيعاب ذلك أو الطُرق لجعله مربحًا. لذا ولبضع سنوات كانت السينما مملوكة لمن صنعها ومن قام بتشغيلها. وقتها لم يتم بعد تشويه هذا الاختراع العجيب والمذهل. يشرح المخرج بذكاء بصري رفقة موسيقى تصويرية مدهشة في الاحتفال الصاخب بمطلع الفيلم والاحاديث عن الصناعة في خضمه شكل العمل وكيف يتم انشاؤه وعلى مدى الدقائق التالية يسهب في بث الحنين لتلك الاساليب من التصوير وذلك الجنون الفعلي من اجل انجاز صورة متحركة. غير انه وفي مشهد رئيس اخر في النصف الثاني من حكايته يوضح شازيل بلمسات مثل الانتقال من النهار الى الليل وتقليل الاضاءة كيف تزامن ظهور الأفلام الناطقة مع حضور المافيا ونخب المال في لوس أنجلوس للاستيلاء على ما كان حتى ذلك الحين ملكًا لصانعي الأفلام الصامتين والمشاهدين. لقد مثل مشهد هبوط ماني توريس إلى الجحيم مع رجل العصابات جيمس مكاي –شخصية اشبه بالرمز للذين يسيطرون على هوليوود- حين يأخذه الى نوع من الكهف المهجور حيث "لا يزالون يقيمون حفلات مثل الأيام الخوالي!". وما ان يعتقد المتفرج أنه سيجد حفلة تشابه تلك التي في بداية الفيلم حتى يتفاجأ بالظلمة الموحشة والاشارات المرعبة للقعر المُتجه اليه ماني ومن يمثلهم. هذا الكهف هو جحيم دانتي بمستويات مختلفة من الفساد. تسيطر عليه هوليوود نخب الأعمال والإعلام. انها استعارة لتآكلها واضمحلال روحها المتوهجة. ما كان في الأصل نقيًا وبريئًا وغير أخلاقي يصبح فاسدًا وقذرًا وغير أخلاقي بدناءة مع مرور الوقت. لقد فقدت السينما صفاءها الفطري بمجرد ان قطعت حبل صمتها الساحر.

يمثل الشجار بين جاك كونراد (براد بيت) وزوجته المسرحية صاحبة الأناقة الادائية المتعالية والتي تحتقر السينما لكونها "مبتذلة" -وفق وصفها- جزء كبير من فكرة الفيلم. لقد دافع عن فكرة نقية للسينما غير ملوثة بمجمعات المكانة الثقافية والاجتماعية وتمثلات نخبوية تضع ضريبة شكلية مجحفة باشتراطات تعسفية على روح الصورة المتحركة الفنية والمنتمين اليها. كما ان حديثه مع الصحفية السينمائية عن انتهاء عصره هو الجانب الاكثر وضوحًا من موضوعة الفيلم في لعبة المتغيرات بين الموضة الاجتماعية والسياسة العامة والمال والمزاج الشخصي للحاكم بأمر الاستوديو. بنفس السياق يأتي مشهد نيلي (مارغوت روبي) التي سعت نحو اعادة احياء مسيرتها بعد دخول الصوت الى صناعة الافلام حين تحضر الى حفلة لمن يمثلون النخبة الحاكمة في هوليوود تتعرض فيها للإذلال من قبل سيدات المجتمع الراقي الذين يحتقرون "المتخلفين في السينما". وبعد ان سئمت من القيد الذي وضع على شخصيتها المتحررة المجنونة تُخرِج نيلي من خلال السخرية كل غضبها لتتقيء بوجه احد المنتجين ثم على ارض المكان. لقد رمى شازيل ما بجوفه تجاه قوة الصفوة المُتسيدة والتي تقود الصناعة والاعلام بكل وسائطه ووسائله.

مع اللا لا لاند ابدى داميان عشقه الكبير للروح القديمة الحافلة بالمرح والفرح والحب ومظاهره والتي سكنت استوديوهات عاصمة السينما ذات يوم، غير انه في بابل لم يقف عند هذا الحد بل حرص على استدعاء شخصيات عتيقة غمرها طوفان الزمن ليقف عندها في عرضه مستعيدًا كثافة ضوئها الطاغي لحظة النجومية قبل ان يسقط شهابها للافول. هكذا استقى شخصية كونراد من قصة الممثل جون غيلبرت الذي وبعد ان وصِفَ ذات يوم بالعاشق الكبير كرمز لطغيان صورته على الشاشة اضحى النموذج الامثل للممثل ضحية تغير الحقبة وتبدل الحال بين الصامت والمحكي. لم يكن السبب صوته الغير مثالي للفيلم الناطق كما ادعوا -وهو بالطبع عكس الحقيقة على الاقل فيما يتعلق بطبقة الصوت ونغمته- بل ان التراجع والاختفاء تدريجيًا هو بسبب سياسة الاستوديو التي رأت ان زمنه قد ولى. بومضة في عمر التاريخ سقط انسان مثل الكثير غيره. مر وقت غيلبرت كممثل بعد ان تلاشت شهرته. ألتهمته هوليوود مضغته وبصقته كما فعلت مع الجميع من قبل وستفعل بأي شخص آخر في المستقبل.

تعليقات الزوار

  • وضاح الشعراني

    جميل جدا استاذ علي

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top