قريباً من الألب السويسرية..متحف آينشتاين وحكايات أخرى

قريباً من الألب السويسرية..متحف آينشتاين وحكايات أخرى

لطفية الدليمي

إنه الليل: هي ذي الينابيع الفياضة ترفع صوتها في حديث مسموع، وروحي أيضا هي نبع فياض..

إنه الليل: هي ذي أغاني المحبين تستيقظ الآن، وروحي هي أيضا أغنية حب..

نيتشه من كتابه (هذا هو الانسان)

لاأعلم لماذا تذكرت عبارات نيتشه تلك وأنا أرتقي السُلّم بدرجاته المتعبة إلى متحف - بيت (آينشتاين). إنه الليل في منزل آينشتاين، إنه ليل العالم وأغاني العشاق تغمر ليل الحرية في مدن الشرق والغرب، وماأن أبلغ الطابق الثاني وتواجهني صورة آينشتاين المفعمة بالمرح والحياة بقبعته الأنيقة والابتسامة الساخرة التي تفيض من عينيه وملامحه المتوهجة بالعبقرية حتى تنهمر كلماته المجيدة من ذاكرتي. كم انحنيت احتراماً لذكراه وهو يعترف في كتابه (العالم كما أراه):

" علينا العمل بالسرعة الممكنة لازالة هذا العار الذي يلطخ اسم الحضارة باسم البطولة، باسم الاعتداء والعقلية القومية الغاضبة، كم أكره كل هذه المظاهر وكم أحتقر الحرب التي أجدها في غاية البشاعة. أفضّلُ أن أقطّع إلى أشلاء على أن أشارك في هذا الحدث البائس.... "

متحفه كان في السابق بيته المتواضع الصغير الذي يقع في العاصمة بيرن ويحتل شقة في الطابق الثاني من المنزل كان يشغلها آينشتاين وزوجته ميلفا ماريك وابنهما هانز من عام 1903 إلى عام 1905 - عام المعجزة الكبرى في حياة آينشتاين، وهي السنة التي نشر فيها نظرية النسبية الخاصة التي دشّن بها عصر الفيزياء الحديثة، كتبها في هذا المنزل ونشرها في مجلة " حوليات الفيزياء" وكان حينها يعمل موظفاً بسيطاً في المعهد الفيدرالي للملكية الفكرية لبراءات الاختراع.

شاهدنا في الطابق الثاني أسلوب معيشة أسرة آينشتاين المتواضع وتفاصيلها: أثاث كلاسيكي متواضع يرجع في طرازه إلى أواخر القرن التاسع عشر، غرفة معيشة غاية في البساطة، أريكة مخمل بُنيّة اللون وسجادة حمراء ومائدة طعام مستديرة وستائر مخمل عتيقة الطراز، وتحتل الجدار صورةٌ فوتوغرافية له مع زوجته ميلفا. في غرفة الابن ثمة مهد من الخيزران ولعبة دب مخملي تمثل رمز مدينة بيرن، ويختص الطابق الثالث بعرض بعض الوثائق والصور عن سيرة آينشتاين وأعماله ومنجزاته العلمية ومن بينها صورته عازفاً على الكمان مصحوبة بتسجيل لإحدى معزوفاته.

مغامرةٌ في العصر الجليدي

لم يُدهشْني منظر جبال الالب المدثّرة بثلوج يتصل بياضها بغيوم السماء البيضاء، لم تسحرني الثلوج المهيبة بقدر ماأصابني المشهد بالخوف والتفكر بالعصور الجليدية التي اكتسحت الكوكب ولم ينجُ منها سوى قلة من الأحياء. تمتعت أكثر بالسفوح الخضراء والبحيرات والمنازل الريفية على امتداد الطريق من مدينة بيرن الى أعلى قمة يمكن بلوغها، همومي كانت الجبل الذي يثقل زمني في الصحو واليقظة رغم شعوري بالأمان والدعة مع ابني.

لطالما كنت أهاب الثلج والبرد والمرتفعات؛ فأنا ابنة السهول والشمس وأضواء الشرق الكاشفة؛ لكن الفضول دفعني للموافقة على رحلة اليوم الواحد إلى إحدى قمم جبال الالب الشمالية. أمضينا يوماً بين قرى ومدن السفوح وتركنا السيارة في إحدى القرى الجميلة التي تضحك في شرفاتها أزاهير الجيرانيوم الحمراء والنوافذ التي تنعم بستائر الدانتيل وموسيقى موتزارت. استقلينا القطار الذي يتسلق سكة شديدة الانحدار على حافة سفح ليأخذنا إلى محطة التلفريك التي سأخوض تجربة رعبها للمرة الثانية بعد أن جربتها لأول مرة عند أرز لبنان - أنا التي ترعبها المرتفعات، كان قلبي يرتعش هلعاً وجسمي يرتجف برداً والتلفريك بركّابه العشرة وهوائه الخانق يحلق بنا فوق الوديان السحيقة وبحيرة (تون) لنهبط أخيراً عند الجزء الشمالي لجبال الالب على هضبة جليدية تحت ذرى جبل (بياتنبيرغ). تجربة غريبة ومدهشة ومخيفة قررت أن لاأخوضها ثانية؛ فقد أحسست - رغم المعطف السميك والشال الصوفي وطاقية الرأس - بأن عظامي ترتجف وتطقطق بشدة فتنتقل الرجفة إلى أطرافي، تيقنت أنني جبانة للغاية أمام جبروت الثلج الأبدي ولن أتحمل أو أطيق تمضية سنوات العمر الباقيات في بلاد مثلجة.

لبثت واقفة عند باب محطة التلفريك بينما تزلج المسافرون الاخرون على السكي وتقاذفوا كرات الثلج وبالغوا في ارتقاء سفح الهضبة الثلجي الصاعد إلى قمة الجبل، إحتسينا الشاي الذي اشتريناه من رجل كان يحرس الثلوج الازلية ويبيع المشروبات الساخنة في كافيتريا تحتل غرفة على السفح، لم يفلح الشاي المبجل بحرارته الممتعة وشذاه المنعش أن يوقف جائحة الرجفة في العظام.

كان علي أن أكابد رعب العودة بعربة التلفريك المغلقة وهوائها الخانق لنبلغ محطة القطار وننحدر هذه المرة نحو الارض بعد أن ارتقينا بالزمن إلى عصوره الجليدية السحيقة وكأننا عشنا في عالم موازٍ لعالمنا - عالم مازال يكابد مصاعب العصر الجليدي الأخير ويخبرنا عما حصل للكائنات الحية التي لم يسعفها الحظ بالنجاة.

هل سأنتهي في ثقب أسود؟

أمضيت مع إبني في مدينة بيرن ثلاثة شهور تمتعت خلالها بجماليات الفنون وزيارة المتاحف والريف السويسري على النقيض مما عشته من توتر وإحباط وخذلان في باريس.

خلال تلك الفترة كانت الاوساط العلمية العالمية تتهيأ للاعلان عن بدء التجارب الأولية في مشروع (سيرن) قرب جنيف، ولأننا أنا وابني مهووسان بالفيزياء وأسرار الكون فقد عشنا تجربة فريدة تراوحت بين الفضول والشغف وبين الزهو البشري بعيش لحظات فاصلة في تاريخ العلم وبين نوبات هلع وخوف متباعدة كنا نترقب معها بدء التشغيل التجريبي في مصادم الهادرون الكبيرLarge Hadron Collider واختصاره (LHC). نحن في بيرن على مبعدة 158 كيلومتراً عن موقع التجربة المخيفة.

أجريت هذه التجربة في 2008 وأبدى علماء فيزياء عالميون كبار مخاوف من خطورة المشروع وحذّروا من إمكانية حصول ثقب أسود قد يلتهم الارض وما عليها.

فكرتُ حينها:

- حسناً فليكن، إذا حصل وانبثق ثقب اسود وابتلع كوكبنا فأنا في الأقل مع إبني ولست وحيدة مثل نكرة مجهولة في فندق باريسي بائس. طرأت لي فكرة أخرى: لماذا لاأستقل القطار إلى جنيف ولديّ هناك صديقات وأصدقاء، وقد فعلتها وسافرت قبل أيام بالقطار الى جنيف؟ لماذا لا أفعلها لأكون على مقربة من مشهد البانوراما النووية والارتماء مباشرة في أحضان الثقب الأسود الحنون؟

وجدتها فكرة مدهشة: أن أختار نهاية عظيمة فأنجو من تفاهات وضع اللجوء في فرنسا الذي فرضته عليّ فوضى الوضع العراقي ورعبه.

لم أطرح الفكرة على إبني؛ فلم أشأ أن أربكه بقرار يبدو صبيانياً أخرق مثل هذا بينما هو يحاول التخفيف عني بسفرات ممتعة وزيارات للمتاحف ومعارض الفنون.

كان الخوف يخيم على المدينة والناس؛ فالكل يتوقع كارثة ما لدى تشغيل المعجّل النووي (مصادم هادرون الكبير) في قلب أوروبا والذي تمتد منشآته على مساحة 27 كيلومتراً مربعاً تحت الارض في المنطقة التي تقع خارج جنيف على الحدود بين سويسرا وفرنسا.

لم يحصل ماحذر منه العلماء القلقون على مصير عالمنا وكوكبنا المسكين، أرجأ النجاح الجزئي للتجربة مشهد النهاية إلى حرب قادمة أو تجربة علمية جديدة يجازف فيها منفذوها بمصيرهم ومصير العالم.

أصبت بعدها وعلى مدى سنوات لاحقة بهَوَس متابعة أخبار مشروع سيرن وكل ماينشر عنه في الصحف الأجنبية والمجلات العلمية بعد مغادرتي باريس وعودتي إلى عمّان، ولطغيان تأثيره عليّ كتبت عنه في أحد فصول روايتي (سيدات زحل). إستمرّت تجارب المصادم الهادروني الكبير وأعلن علماء المشروع في 2012 عن رصدهم لوجود بوزون هيغز – جسيم هيغز الذي يمنح المادة كتلتها وأكدوا وجوده بنسبة 99,99%!!.

لاأظنني سأصاب بالهلع إزاء مثل هذه الارقام المذهلة؛ فأنا عاشقة دائمة للفيزياء وعلم الكونيات والنظر للمستقبل البشري على كوكبنا الذي لم نكن أوفياء له ولم نجنبه المخاطر التي سبّبتها مطامع البشر واستنفادهم لموارده الهائلة؛ لكنني سأردد دوماً مع بابلو نيرودا: " أشهد بأنني قد عشت "، وأنني كنتُ ذات يوم على وشك أن تنتهي حياتي في ثقب أسود!!.

زيورخ: أسطورة المال وخلود الفن

أتيحت لي زيارة زيوريخ مدينة الثقافة والمال والسياسة مراتٍ خلال اقامتي في بيرن، الأولى بدعوة من المركز الثقافي العربي السويسري ومقره زيورخ لحضور يوم من فعاليات مهرجان المتنبي. كان حشد من شعراء عرب وأوروبيين حاضراً؛ فثمة شعراء ألمان ونمساويون وايطاليون وآخرون من الكويت والسعودية ومصر والمغرب، وثمّة شعر ومآدب على ضفة بحيرة زيورخ وجولات في قلب المدينة.

مع إبني قمت بزيارات أخرى لزيوريخ، تجولنا بين مقاهيها التي تتفوق على مقاهي باريس بترفها المعلن، وكدت أضلُّ سبيلي في أزقتها العتيقة بين مباني القرون الوسطى الكلاسيكية لولا برج الكاتدرائية الشامخ. سحرتني جسورها ومسارحها ونهرها الذي يتدفق بجلال الانهار العظمى ماضياً نحو مصيره في بحيرة زيورخ المسترخية تحت ذرى جبال الالب وقصور الاثرياء.

تفخر زيورخ كمدينة عصرية عولمية بمصارفها التي تمتد خزائنها تحت الارض مثقلة بالذهب والاموال. عَبْرَ البنوك و (متحف الفن الحديث) الرابض في قلب المدينة توقظ زيورخ فضولك بأنامل من ذهب وجمال؛ فهي المدينة الأنثى بامتياز فتنتها ونشوة الحياة المعلنة فيها، تواجهك في اللحظة الاولى من ذهولك وتقول غنجةً بشعارها المعلن (عِشْني لتحبّني): هكذا تخاطبك إعلاناتها السياحية الترويجية.

زيوريخ مدينة تغويك بآفاقها الثقافية ومفاجآتها، من لحظة الوصول إلى محطتها العريقة تبدأ آيات الفن الحداثي ومابعد الحداثي بمحاورة فضولك؛ فهنا في قاعة المحطة أعمال فنية مابعد حداثية، تجهيز ضوئي يتألق ألواناً في العتمة الهشة للقاعة، ومعرض للصور الفوتوغرافية المدهشة لعلم الحياة تقيمه جامعة زيورخ لعرض لحظات من تشكلات عضوية برؤية بصرية مبهرة. من المحطة إلى متحف الفن الحديث (كونستهاوس) مروراً بمقاهٍ عديدة ينغمر المرء في لذائذ الحوار البشري وعبق القهوة والشوكولاته وقراءة آخر الإصدارات من روايات وآداب أوروبا والعالم.

أمام المتحف ساحته الواسعة بمصاطبها الحداثية تتيح للمنتظرين التمتع بأعمال النحات البريطاني هنري مور والفنان الامريكي الكساندر كالدر وآخرين. تطفو في الفضاء الذي يتقدم المبنى أمامنا - ونحن في الكافيه المفتوح تحت الشمس - قطعةٌ فنيةٌ من منحوتات الفنان الاميركي الشهير ألكساندر كالدر المتحركة، تشاكس الريح والريح تحررها من سكون العناصر فيها، كالدر كان يقول: المتحرك في رأيي قصيدة ترقص على إيقاع الحياة المرح ومفاجآتها.

في كافيه المتحف طلاب فنون وكتاب وصحافيون وعشاق فنون وسيدات متأنقات ورسامون بوهيميون وموسيقيون يكوّنون خلاصة المشهد الحضاري لمدينة الثقافات.

تحت منحوتة كالدر بقطعها المعدنية الملونة ورقصها الحر منحوتة ثابتة للنحات البريطاني الأشهر هنري مور. هنري مور وكالدر يتناقضان ويتكاملان ويتعاملان مع الفضاء بعذوبة شعرية وحساسية عالية للحدوس الإنسانية والقوة الداخلية للمنحوتة لدى مور والحركية المباغتة المربكة لدى كالدر الساخر ونظرته المراوغة للكون.

الفنان السويسري الأشهر اوغستو جياكوميتي والفنان الحلمي مارك شاغال يتقاسمان نوافذ الاديرة والكنائس القوطية وسط زيورخ، ومن تلك النوافذ نطلُّ على عالم فانتازي يجمع بين الأسطورة والفن والدين.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top