TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناطر: ليست حياتي ما أكتبه. . هي ما أخجل منه

قناطر: ليست حياتي ما أكتبه. . هي ما أخجل منه

نشر في: 27 سبتمبر, 2023: 11:38 م

طالب عبد العزيز

لطالما حدّثُ أصدقائي عن حياتي، حياتي الغريبة والمختلفة جداً، التي لا تشبه حياة أيِّ إنسان في العالم! بكل تأكيد هي لا تشبه حياةً احدٍ، ألمْ تكن نسيج الجسد الذي تلبسته وحدي؟ وما قيمة حياة تشاكلت مع غيرها،

وأيّ معنى لها إن جاءت مستنسخة عن أصلٍ؟ لكنْ، هل هناك حياة لشخص عراقيٍّ، ولد في خمسينات وستينات القرن الماضي يمكن التحدث عنها وتقصي عوالمها؟ بيقيني أنَّ كل العراقيين إنما عاشوا حياة واحدة، مع افتراق قليل، بين هذا وذاك، ذلك لأنَّ الحرب وحَّدت الجميع، وجعلت من حياتهم متشابهة حدَّ القرف.

الغالبية منا قدموا من أصول فلّاحية، أو عمّالية فقيرة، وحين أنهوا دراستهم- بينهم من لم يكملها، وأنا واحد منهم- وبعد سنة أو سنتين من تنعمهم بالوظيفة، تزوّجوا، لكنهم لم يلبثوا طويلاً في أحضان زوجاتهم، فقد تعجّلت الحربُ بأخذهم على ىسرفاتها، وبعثرتهم في الاودية والسهوب وعلى رؤوس الجبال، فمات من لم يعد، وعاد من لم يمت. أليست هذه حياتهم باختصار؟

كان الشاعر ابراهيم البهرزي قد هداني، قبل مماته بسنتين، الى مشاهدة فيلم باترسون، Paterson) انتج سنة 2016) من إخراج جيم جارموش، وبطولة آدم درايفر وكلشيفته فراهاني، ترسَّم جارموش فيه خطى الشاعر الأمريكي وليَم كارلوس ويليامز في قصيدته الملحمية "باترسون" التي صدرت في 5 كتب في الفترة بين 1946 و 1958 عبر فكرة بسيطة وجميلة، فبطل الفيلم سائق حافلة، متزوج في مدينة اسمها باترسون ايضاً، وهو شاعر يكتب قصائده، ويدوّن مذكراته بشكل يومي، أثناء قيادته للحافلة في شوارع باترسون المدينة أو وهو يمشي، وفي المطبخ، في همٍّ شعري لم يفارقه.

أحببتُ الفيلم هذا فهو يذكرني بمفصل كريه من حياتي، ولمن لا يعرف حياتي أقول: سبق لي وأنْ عملت في مهن منحطة جداً (نجّار في الجيش، عتال في ميناء المعقل، كاتب في دائرة تسويق الفواكه والخضار، فلاح في بستان ابي، عامل في مصنع للحديد. .. وطوال السنوات تلك، كنت أحمل قلماً ودفتراً أخط فيه ما يعنُّ لي، من شعر وأفكار وقصائد على أنَّ ذلك لا يعني خارج سخرية الذين عملوا معي، وتسفيههم لما أنشغل به، وأنزوي من أجله، فقد كانت كلماتهم أقسى عليَّ من المهن المنحطة تلك.

- كنت أرثي لباترسون عمله المهين ذاك، واعيش معه محنته، وموائمته بين عمله السخيف كسائق حافلة، ولحظة حضور القصيدة فيه، وتعجّله بتدوينها، ومن خلال ما كابدته أدركت معاناته ومكابداته، مع المتطفلين والدخلاء، وبما أحالني الى تذكر انني، كنت ألجأ الى حديقة صغيرة، سميتها غابة الضجر، تقع مقابل القسم، الذي كنت أعمل فيه بمصنع الحديد، والتي كنت أمضي فيها جلَّ النهار، أقرأ أوأكتب، وكيف كان العمال التافهون يسخرون مني، ويقذفونني باحذيتهم، وكيف كنت أتفادى قهقاتهم بما أنشره في الصحف والمجلات.

يجلس باترسون قرب فتاة صغيرة تكتب الشعر ايضاً تسأله إنْ كان يحب الشعر فيجيب: نعم. ثم وبعد أن تقرأ له قصيدة (الشلّال) تسأله ما إذا كان يحب الشاعر إيملي دكنسون؟ فيقول لها: نعم. فترد عليه: هذا جيد. سائق حافلة ويحب ايميلي ديكنسن! ! في الفترة تلك كنت قد تعلقتُ بامرأة، أحببنا بعضنا، وصرنا نمضي الساعات الطوال، متحدثين عبر الهاتف، كان عامل البدالة اللطيف يأتيني بصوتها، فتكلمني، مع يقيني بأنه كان يتنصت علينا ما نقول، ونتحدث به، كان حديثنا لا يتجاوز الشعر والقصائد والكتب، كانت تراني شاعرها الاول، وكنت أجد فيها تعزية لما أعاني منه و أكابده.

حين تعطلت سيارة باترسون ظلَّ حائراً، فهو لا يعرف اصلاحها، انا كذلك، لم أحسن عملاً من بين كل المهن التي عملت فيها. في الحرب اختارني الملازم عبد الله صديقاً له، هو ضابط مجندٌ من الموصل، وكنا نتحدث بحديث الشعر والرواية والضجر، وحين نكلّف بعمل ما من أعمال الجيش، التي تشبه أعمال السخرة، يطلب الجنود منّي اشغاله بالحديث معه، ليتسنى لهم العمل بحرية، وكنتُ أفعل. أتذكرُ الآن كيس الطعام الذي كنت احمله، وجبة الفطور الصباحية، والكتاب الذي تدسهُ زوجتي يوميا في الكيس ذاك، مع الأرغفة والخضار وقطعة اللحم وأصابع البطاطا.. عبر الرحلة المريرة، التي تنقلت فيها من مهنة إلى اخرى، لم أتقن إلا الضجر والسأم وكتابة القصائد.

حين أكلت الكلبة دفتر قصائد باترسون حزن كثيراً، وللتخفيف من حزنه أهداه أحدُهم دفترا فارغاً ايذانا بكتابة قصيدة جديدة. حياة باترسون تشبه حياتي الى حد ما. هي ليست ما أكتبه هي ما اخجل منه.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. عدي باش

    مسيرة حياتك المهنية (على بساطة مفرداتها) و الإبداعية ليس فيهما ما يُشين كي تجعلكَ تخجل منهما

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

العمود الثامن: ماذا يريدون؟

السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

العمود الثامن: عاد نجم الجبوري .. استبعد نجم الجبوري !!

العراق إلى أين ؟؟

العمود الثامن: ماذا يريدون؟

 علي حسين دائما ما يطرح على جنابي الضعيف سؤال : هل هو مع النظام السياسي الجديد، أم جنابك تحن الى الماضي ؟ ودائما ما اجد نفسي اردد : أنا مع العراقيين بجميع اطيافهم...
علي حسين

كلاكيت: مهرجان البحر الاحمر فسيفساء تتجاور فيها التجارب

 علاء المفرجي في دورته الخامسة، يتخذ مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي شعار «في حب السينما» منهجًا له، في سعيه لإبراز هذا الشغف الكبير والقيمة العليا التي تعكسها كل تفصيلة وكل خطوة من خطواته...
علاء المفرجي

لمناسبة يومها العالمي.. اللغة العربية.. جمال وبلاغة وبيان

د. قاسم حسين صالح مفارقة تنفرد بها الأمة العربية، هي ان الأدب العربي بدأ بالشعر أولا ثم النثر، وبه اختلفت عن الأمم التي عاصرتها: اليونانية، الفارسية، الرومانية، الهندية، والصينية.. ما يعني ان الشعر كان...
د.قاسم حسين صالح

لماذا نحتاج الى معارض الكتاب في زمن الذكاء الاصطناعي؟

جورج منصور في عالمٍ يتسارع فيه كلُّ شيء، ويكاد الإنسان أن ينسى نفسه تحت وطأة الضجيج الرقمي والركض اليومي، يظلُّ (معرض العراق الدولي للكتاب)، بنسخته السادسة، واحداً من آخر القلاع التي تذكّرنا بأن المعرفة...
جورج منصور
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram