حوار أوّلي حول البيان المفاهيمي (البيئوواقعي) للفنان إبراهيم رشيد

حوار أوّلي حول البيان المفاهيمي (البيئوواقعي) للفنان إبراهيم رشيد

((لأن الفن في حقيقته بحث في الجمال والطبيعة كما هو بحث في الإبداع والخلق، فإن أساليب التعبيرعنهما لا تتأتى إلا بالبحث الأكاديمي الجاد والمثابرة والمعاناة. فإن أعمال إبراهيم رشيد الفنان التشكيلي الكبير والباحث في فكر الفن والبيئة قريبة من هذا كله، وقد تجلت أعماله في تجسيد الحس الإنساني الراقي والتماهي مع الذات لخلق تجربة فنية متميزة واندهاشات أشير إليها بالبيان إبان وجوده بالعراق قبل ربع قرن تقريبا، وقتها كان لم يتجاوز العشرين من عمره. أما في شتات الأرض في أوروبا وأميركا والسويد، والدانمارك وكندا فلقد أنجز تجارب ومشاريع فنية أخذت شهرة عالمية كبيرة وتركزت على ردم الهوة بين الطبيعة وأفكاره الفنية والجمالية العميقة التي تخبئ في طياتها مشاريع تكاد أن تكون هي حقيقة الطبيعة التي تحيطنا،والتي يسعى إليها الإنسان اليوم للتعايش معها بتفاعل وانسجام. شيء آخر عجيب في أعمال إبراهيم رشيد يمكن استنتاجه بقليل من التأمل، هو ذكاء تفكيره وعمقه الفلسفي والنقدي من جانب وخصوصية تعبير أعماله ورصانتها من جانب آخر، بحيث تجلب الانتباه والتبني بقوة، فهي تتخذ موقفا اكتشافيا وإصلاحيا ونقديا صادقا وحقيقيا في ذاته وخارجها ولا يمكن أن يقوم بها إلا فنان كبير وباحث ومكتشف ثاقب مثل إبراهيم رشيد.

إن إبراهيم رشيد ليس فنانا تشكيليا فحسب بل هو مفكر مفاهيمي ومبدع لفكر فني، انه يحاول بجهد استثنائي أن يعري الواقع ليكشف مكنونه الحقيقي وذلك من اجل إيجاد مخارج واستنتاجات فنية لمشاكل الإنسان والبيئة ولإقامة علاقات بصرية جديدة وخلق مفردات تشكيلية متنوعة وليست تقليدية أو مطروقة تجعلنا غير بعيدين عن معنى فكر الفن المعاصر، وليضفي على المشهد الثقافي والفني العراقي دهشة وتساؤلا وبريقا نحن بحاجة له أكثر من أي وقت آخر. توجهنا إلى الفنان إبراهيم رشيد في يوم كان مشغولا بتصوير أشياء ومواد لم يكن من السهل على المشاهد أن يتصور أن هذه المواضيع والمواد يمكن أن تكون مادة لعمل فني، فهي كما يسميها إبراهيم (المادة البيئوواقعية الخام) لفن البيئة، ولهذا حاولنا استدراجه لاكتشاف دواخل تفكيره.

*هل يمكن أن تتحدث لنا عن حقيقة القيمة المادية والفنية الجديدة التي تبحث عنها محاولا اكتشافها واعتمادها في بحثك الجمالي والتشكيلي ؟

-إن الحديث عن هذا الموضوع سيجعل لزاما علينا أن نفهم الأصول الجذرية والأولية لهذه القيمة المادية والفنية الجديدة ،وذلك من خلال لغة وأدوات وأسلوب جديد أيضا. التجربة التي أخوضها الآن هي انعكاس للواقع والحياة العامة التي عشتها وتعايشت معها طوال فترة الحروب المدمرة التي مرت ،سواء عندما كنت داخل العراق أو خارجه.فهي تجربة خاصة عن البيئة والإنسان، الموت والحياة، البناء والتدمير. هذا المفهوم ولد السؤال المهم الذي أصبح في ما بعد منهجا لي، وهو كيف يمكن  للبيئة أن تخلق فنا؟ وكيف يمكن للإنسان العادي أن يحل محل الفنان أو يكون هو(الفعل) و (العمل) الفني في ذات الوقت؟!

وهل تعتقد أن البيئة قادرة على إنتاج عمل فني مثلما يقوم به الفنان أو بديلاً عنه ؟*

- نعم، لكن ما أعنيه هنا أن البيئة قادرة على إنتاج الظواهر والأصول الطبيعية الأولية ،مثلها مثل الفنان ولكن ليس بديلا عنه وما على الفنان بعد ذلك إلا صياغتها فنيا بشكل إبداعي. خذ مثلا أني دائم الاستعانة بمصادر الطبيعة والبيئة و الحياة اليومية في فني وبحثي أكثر من المصادر الفنية التشكيلية التقليدية. وتجربتي مع تلوث البيئة في العراق بعد حرب الخليج الثانية أفضل مثال على ذلك، فأنا لا أستطع أن أنسى ذلك اليوم الذي أسميته بـ(يوم المطر الأسود) من أيام شتاء عام 1991 عندما هطلت على بغداد الأمطار الكاربونية والحامضية السوداء من أثر الكارثة البيئية الكبيرة التي حصلت بسبب حرق آبار النفط في الكويت أثناء حرب الكويت عام 1991. عندها تساءلت هل يمكن أن يكون سقوط هذا المطر الأسود مفهوما جديدا للفن؟هكذا بدأت  اكتشاف مصادر وظواهر جديدة للفن استطعت في سنين اغترابي أن أهيئ لها مختبرات للبحث والتجريب. هذه الحادثة كانت ومازالت بالنسبة لي نقطة فاصلة في مرحلة تطور تجربتي الفنية التي بدأتها منتصف الثمانينات من القرن الماضي والتي أسست في حد ذاتها تجربة جديدة في مفهوم الفن والبيئة. إن نظريتي تتلخص ببساطة في أن تاريخ الفن العراقي الحديث والمعاصر قد اعتمد دائما في إنتاج العمل الفني على المخيلة لإنتاج (الواقع). لكن اليوم نريد أن نعتمد الواقع لإنتاج (الواقع). لأن في هذا (جمالاً)  بصرياً ومفاهيمياً وثقافياً غير مكتشف!

*وهل تعتقد أن هذا كان امتدادا لتجربتك التي امتدت لأكثر من ثلاثة عقود، حيث كنت فيها مثل ربان سفينة تلاطمها الأمواج العاتية، هذه التجربة الفنية الطويلة والغنية التي أنتجت مشاريع فنية معروفة في أوروبا وأميركا. هل من الممكن أن توضح لنا ماهو الشيء الذي تريد أن تقوله للعالم ولنا في العراق بعد ربع قرن من الهجرة الاكتشافية والإبداعية في العالم ؟

-يشغل تفكيري دائما فكرة البناء والتدمير للطبيعة والبيئة، لماذا نحن دائما نبني ونهدم.. نبني ونهدم؟ وهكذا ومنذ آلاف السنين ومنذ بناء بابل وجنائنه المعلقة وعجلة الحياة تبني وتهدم على هذا الطريق، إذن لماذا يهدم الإنسان دائما مابناه؟ كان هذا السؤال،هو نتيجة منطقية للتطورالديالكتيكي للحياة ولمفهوم الصراع بين الإنسان والبيئة.ولهذا تجدني باحثا في الفن في غير موضعه وفي غير أدواته ومصادره، في علوم الطبيعة والانثروبولوجيا، والهندسة المعمارية، والسوسيولوجيا وكل مايغني اكتشافاتي في (علم) الفن.

*إذن فإن ضرورة الفن في هذه الحال ليست مادية كما هو متعارف عليه في الفن التشكيلي العراقي، هل تجد أن هذا يمكن أن ينسجم مع واقع المشهد التشكيلي العراقي الآن؟ وهل تجد أن طروحاتك الجديدة يمكن أن تفتح آفاقا  للتطور عالميا؟

-إنني على ثقة من أن هذه التجارب ستفتح آفاقا كبيرة لجيل الشباب ليخوضوا تجارب أخرى تعمل جميعها على النهوض بالفن التشكيلي وأنا أعرف تمام المعرفة أن عملية قبول مثل هذه الأفكار ستكون ليست سهله لكنها ستكون شكلا من أشكال الإرادة والتحدي الحضاري نحو المستقبل.

قد يروق هذا الموضوع للبعض وقد لايروق  للبعض الآخر، لكني أقول هذا للأمانة التاريخية والمهنية (وأنا الذي قضيت نصف عمري في العراق ونصفه الآخر في أوروبا  فنانا جادا ومساهما فاعلا في الحياة الفنية والثقافية) .إن ما أراه اليوم من منتج ثقافي وفني لا يتجه في المسار الصحيح إلا بخطى متعثرة ضعيفة وغير واثقة لا تتلاءم والموهبة الخلاقة التي يمتلكها هذا الفنان العراقي.. لقد تغيرت الحياة والاقتصاد والمجتمع ودخل البلد في ثلاث حروب كارثية وحصار تاريخي وتلوث بيئي كبير ومع هذا فالفن العراقي مازال يحاكي الفكر الرومانسي والفلكلور والتاريخ والتراثي الخيالي من خلال الألوان والخطوط. هذا الأسلوب أصبح قديما،والمفهوم الفني الجديد الذي أبحث فيه سيطرح كل هذه الإشكاليات الفنية والفكرية على المحك وعلى الواقع.

*ما الذي تدعو إليه الآن ، لاسيما وان التجارب التي أنتجتها قد حققت نجاحا كبيرا وقد عرضت في أماكن مهمة من العالم كما لفتت انتباه الكثير من متاحف الفن ومؤسساته الفنية التي تبنته ودعمته كثيرا مثلما اطلعت عليها، قد أصبحت مادة جديدة وخصبة لكبار نقاد الفن السويديين والأوروبيين الذين تناولوها باهتمام بالغ وترجمت نقودهم إلى لغات عدة.

ما أدعو له الآن هو فكر حداثوي حر، فن مفاهيمي (بيئوواقعي)، فن يجمع رؤية الإنسان المعاصرة للثقافة والحياة. هذا الفن سوف لا يكون بديلا أو لاغيا لما هو موجود لكنه سيكون محركا فاعلا و أساسيا نحو التغيير لفن جديد.من هذه الأفكار أنتجت مشاريع فنية في العديد من متاحف الفن في السويد والدانمارك والدول الأوروبية الأخرى مع زوجتي الفنانة (مها مصطفى) التي كانت أيضا مساهمة وعنصرا فاعلا في التجربة الفنية، مثل مشروع (ما فوق 100 درجة مئوية) ومشروع (نقاط السيطرة) اللذين حظيا بدعم كامل من المؤسسات الفنية والثقافية السويدية. حيث تنقل هذان المشروعان إلى العديد من المدن السويدية والدانماركية.في لواقع أن هذين المشروعين قد أثارا الاهتمام كثيرا لأن الدول الاسكندنافية تعتبر في طليعة الدول التي تسعى  للحفاظ على البيئة والإنسان. وهذا ماجعل المجلس الأعلى للفن في السويد والمجلس السويدي الأعلى للثقافة أن يدعموا طباعة ونشر كتبنا الفنية عن هذين المشروعين وتوزيعها على المكتبات الرسمية في أوروبا،كما دعينا بعد ذلك لعرض هذا المشروع في دائرة الفنون في عمان بدعوة من مؤسسة شومان عام 2004.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top