تمثلات المالكي والسيد كوبلر

آراء وأفكار 2012/12/15 08:00:00 م

تمثلات المالكي والسيد كوبلر


كرر رئيس الوزراء نوري المالكي في مؤتمر صحفي يوم 1/12/2012 وفي كلمة له أمام مؤتمر أقامته وزارة حقوق الإنسان يوم 10/12/2012، تمثلاته الشخصية عن حقوق الإنسان، وهي تمثلات تعيد طرح أسئلة جدية حول طبيعة تعاطي الدولة/ السلطة العراقية مع موضوعة حقوق الإنسان ورؤيتها لهذه المبادئ التي أقرتها الإعلانات والاتفاقات الدولية، أو حتى تلك التي أقرها الدستور العراقي نفسه.

عكست كلمات رئيس الوزراء تأويلا مفرطا لمبادئ حقوق الإنسان، فهو لا ينظر إليها بوصفها حقوقا أصيلة، عالمية، غير قابلة للتحويل(Inalienable ) يتوقف بعضها على بعضها الآخر(Interdependent )، وغير قابلة للتجزيء، متساوية وغير تمييزية(non- discriminatory) وإلزامية بمجموعها. ومن ثم لا بد من التعامل معها بوصفها وحدة متكاملة. وإنما ينظر إليها بوصفها انتقائية، ذات خصوصية دينية وثقافية، قابلة للانتقاص والتجزيء، وغير ملزمة. والأهم من ذلك، هي بالنسبة إليه معيارية تقاس من خلال الآخرين. وهذا الموضوع سبق أن ناقشناه في مقال سابق بعنوان "حقوق الإنسان والتأويل المفرط".
الجديد القديم هذه المرة كان "تواطؤ" بعثة الأمم المتحدة، مرة أخرى، مع هذه "التمثلات والتنظيرات" التي يقول بها السيد رئيس الوزراء بشكل يطرح أكثر من علامة استفهام كبرى. وصل الأمر إلى أن يصرح السيد مارتن كوبلر ممثل الأمين العام للأمم المتحدة في العراق بأن: "كلمة  رئيس الوزراء تعكس تماما الأجندة الموجودة على طاولة الأمم المتحدة"! وإلى أن ما سمعه من السيد المالكي يمثل " الالتزام الحقيقي والصحيح بحقوق الإنسان".!! وهي كلمات تعيدنا بقوة إلى ما حدث في آذار 2011 عندما قام كوبلر نفسه بالإشادة بوضع حقوق الإنسان في العراق بالمقارنة مع دول المنطقة في الوقت الذي عرضت فيه الناشطة هناء أدور صور معتقلي ساحة التحرير الأربعة أمامه وبوجه رئيس الوزراء! حينها كان الناشطون المدنيون يتعرضون للسحل والضرب والاعتقال في شوارع بغداد، وكان المتظاهرون السلميون يتعرضون لإطلاق النار الحي في المحافظات الأخرى، وإن كانت البعثة قد تحدثت لاحقا عن تحريف المترجم لكلام السيد كوبلر.
لنتحقق مع السيد كوبلر عن عينة من هذا "الالتزام الحقيقي" بحقوق الإنسان؛ ففي معرض حديث المالكي عما أسماه "الضجة" التي حصلت في قضية المعتقلات من النساء، يربط المالكي "الضجة" ونجاحات العملية السياسة وأجهزته الأمنية، من أجل الإيحاء بأننا أمام استخدام سياسي لا علاقة له بمسألة حقوق الإنسان: "في كل مرة تنجح فيها العملية السياسية أو تنجح فيها القوات الأمنية تظهر بوجوهنا موجة من الاعتراضات، مثلا الآن قضية حقوق الإنسان". ويتابع مضيفا: "أنا مع حقوق الإنسان، وعندي لجنة خاصة شكلها مكتب القائد العام مهمتها هي متابعة التحقيقات وحقوق الإنسان في التحقيق وفي الأجهزة الأمنية". ومن أجل إثبات مدى احترام الرجل لحقوق الإنسان يخبرنا رئيس وزرائنا أنه شخصيا اعتقل كثيرين ممن "أساؤوا في التحقيق"، أو "أساؤوا في حقوق الإنسان في الأجهزة الأمنية"، وأنه أحالهم إلى القضاء وسجنوا أوطردوا من الخدمة، مؤكدا أن هذا الأمر"لاتساهل فيه". وحتى لا يكون الأمر مرسلا هكذا يؤكد لنا المالكي بكلماته: "أنا أول  من أمس اعتقلت ستة ضباط لأنهم متورطون في التحقيق مع شخص وآذوه في التحقيق وأحلت الملف كله إلى القضاء".  
لن نعود إلى مناقشة تمثلات المالكي لحقوق الإنسان، ولكننا سنقف عند الانتهاكات الدستورية والقانونية التي اعترف بها المالكي علنا في هذا المؤتمر الصحفي:  فهو يخبرنا عن لجنة في مكتب القائد العام للقوات المسلحة تقوم بمتابعة "التحقيقات وحقوق الإنسان" في "الأجهزة الأمنية" وهذا اعتراف صريح من المالكي بأنه يتدخل في اختصاصات حصرية للسلطة القضائية بموجب الدستور والقوانين النافذة أولاً، وإلى أن الأجهزة الأمنية تقوم بتحقيقات في مخالفة صريحة لأحكام المادة 51 من قانون أصول المحاكمات الجزائية رقم 23 لسنة 1971 المعدل. وأن ثمة معتقلين وتحقيقات تحدث في "الأجهزة الأمنية" في مخالفة صريحة للدستور (المادة 19/ثاني عشر) التي تحظر الحجز وتمنع الحبس أو التوقيف في غير الأماكن المخصصة لذلك وفقاً لقوانين السجون المشمولة بالرعاية الصحية والاجتماعية والخاضعة لسلطات الدولة. وأمر سلطة الائتلاف رقم 10  الصادر في 6/8/2010 النافذ الخاص بـ "إدارة مراكز الاحتجاز والتوقيف والسجون" المنشور في صحيفة الوقائع العراقية في العدد 3978 بتاريخ 17/8/2003، القاضي بوجوب إخضاع جميع السجون لإشراف وسلطة وزارة العدل حصرا أمر سلطة الائتلاف رقم 10  الصادر في 6/8/2010 النافذ الخاص بـ "إدارة مراكز الاحتجاز والتوقيف والسجون" المنشور في صحيفة الوقائع العراقية في العدد 3978 بتاريخ 17/8/2003، القاضي بوجوب إخضاع جميع السجون لإشراف وسلطة وزارة العدل حصرا، ولقانون وزارة العدل رقم (18) لسنة 2005 الذي حصر إدارة السجون بوزارة العدل حصرا.
وهو يعترف أيضا بأنه "اعتقل" كثيرين ممن أساؤوا لحقوق الإنسان في التحقيقات، وهذا يعني عمليا أن السلطة التنفيذية، التي يمثلها، تقوم بالتحقيقات من جهة، وأن ثمة انتهاكات ترتكب في هذه التحقيقات، وأنه شخصيا أمر، وليس القضاء، باعتقال أشخاص! وأخيرا يعترف المالكي أن القوات الأمنية ما زالت حتى يوم 29/11/2012  تقوم باحتجاز مواطنين في غير الأماكن المخصصة للاحتجاز وفق الدستور والقانون، وأن ثمة انتهاكات لحقوق الإنسان ترتكب هناك، وأن "ضباطا عسكريين" يقومون بأنفسهم بالتحقيق مع هؤلاء المعتقلين في مخالفة صريحة لما استقر عليه فقه القانون بعدم جواز الجمع بين جهتي الاحتجاز والتحقيق بيد جهة واحدة.
لو وقعت مثل هذه الاعترافات المتلفزة في أي بلد "محترم" لقامت الدنيا ولم تقعد، ولكنها في عراقنا "الديمقراطي جدا" مرت من دون أن يرف لها جفن حامي الدستور، أو مجلس النواب، أوالسلطة القضائية، أو منظمات المجتمع المدني، أو الإعلام! وبالتأكيد لن نتحدث عن "أجندة" الأمم المتحدة التي تطابقت مع كلام السيد رئيس الوزراء!
ألم نقل دائما أن الدستور والقانون في العراق ليس أكثر من "أداة" لغايات يقررها الغالبون سواء جاؤوا على ظهر دبابة أم من خلال صندوق اقتراع!

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top