الافتتاحية:في الحالة العراقية المتشظّية ومدلولاتها : قضم الدولة.. وأسر القيادات السياسية وتجريفها!

فخري كريم 2012/12/22 08:00:00 م

الافتتاحية:في الحالة العراقية المتشظّية ومدلولاتها : قضم الدولة.. وأسر القيادات السياسية وتجريفها!

فخري كريم

تتميّز الحياة السياسية في العراق بـ"رطانة خطابية" لدى قادة الكتل والمكونات المعتمدة، لا مجال لأخذها بـ"الشبهة" ولا التلبس بـ"الشبيه" فيما سبق من عهود.

والرطانة الخطابية في هذا المورد لا علاقة لها بالسائد في الأدب، وإنما بما تعنيه من ليّ المعنى والحذاقة في تحريفه وتدليسه، ونحو ذلك مما يدخل في باب تجهيل الناس بالحقائق وتخديرهم بالوعود والتطمينات وتسطيح وعيهم والتشويش عليه، خدمة لمرامي ومصالح ضيّقة.

ولكل بابٍ من أبواب السياسة الراهنة تدليسه الخاص، لكن الجامع بين القادة وأصحاب الشأن، لا فرق بين من يمسك بأسباب القرار في الحكومة والدولة ومن يتربص على أبوابهما "سائلاً"، هو الإشهار بالشكوى من كل ما يجري في أقبيتهما ودهاليزهما من قرارات جائرة ومروقٍ من الدستور والأعراف والحقوق المهضومة والحريات، وخلاف ذلك مما يتسبب في شكوى العراقيين مما يلحق بهم من مظالم ونكد العيش وغياب الخدمات والأمن والحياة الإنسانية الكريمة.

فإذا كان معروفاً ان الحكومة هي اصل الداء وعليها تدور الدوائر لأنها صاحبة الحل والربط، وهو ما لم نترك زاوية من مبناها ومناوراتها ومفاسدها لم نتناوله بالتشريح ونفضح جوهره، فإن دور القوى "المتربصة" بالحكومة، المعارضة لنهجها وسلوكها، هو مشاركة بالتواطؤ مع ما تقوم به الحكومة، سواء بالتمويه والتنصل من مسؤولية كشف المستور، أو تجنب اتخاذ الموقف الصريح الذي لا يحتمل اللبس إزاء ما يجري من انتهاكات فاضحة، حتى وان أدى ذلك إلى التنحي عن المسؤولية أو فقدان "بعض" الامتيازات، أو التضحية بما " يُنتظر " لها من عطايا السلطان.

لقد اختلطت على المواطن دعاوى القوى السياسية المتصارعة، فكلها تتحدث عن فساد الدولة ونهب المال العام والصفقات الفاسدة، وليس بينها من لا يدعي امتلاك ناصية الحقيقة عن ملفاتها. وكل طرف في العملية السياسية، وكل تكتل برلماني، يحذر من "الواقعة" التي تنذر بانحدار البلاد نحو مواجهة غير محمودة العواقب.

وقد اتفق الجميع على أن ما يسود الدولة اليوم هي قيم "اللا دولة" وان "الديمقراطية المنشودة" تحولت إلى تفردٍ في الحكم واغتصاب للدولة. ولا يتوانى البعض عن تصنيف ما يجري في البلاد بوصفه مقاربة لما كانت تشهده في ظل الأنظمة الدكتاتورية، أو هي على عتبتها. لكنها وهي تقول ذلك كله، تواصل البقاء في مواقعها السياسية، وتتبادل الأعذار والاعتذار، وتلتزم جانب الصمت ولو لبعض الوقت، وكأنها بما أطلقته من صيحات الاستنكار والاحتجاج على نهج الحكومة وسياساتها، قامت بما يمليه عليها الواجب بأضعف الإيمان، وعادت الى صمتها بعد ان حققت لنفسها قدراً من المراد !

وإذا التفتنا إلى السلطتين النافذتين من حيث الصلاحيات الدستورية، السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية، فأمرهما اشد أثقالاً ومدعاة لليأس والإحباط على العراقيين. فقلما ظهر فيهما ومنهما، ما يتناقض أو يردع ما يتعارض مع الدستور وموجباته من نهج الحكومة وسياساتها، ومن مظاهر الفساد والنهب العام، والمشتبه بهم حد تلبس التهمة. بل التشابه والشبهة بين أركان السلطات الثلاث هو ما يلتقطه المواطن من المشهد السياسي السائد.

وتظل "الشبهة على من أدعى"، وهي في الحالة التي نحن فيها، تنصب على الحكومة كما الكتل السياسية وقادتها والمتنفذين فيها. فالولاية الثانية لرئيس الحكومة شهدت مزيداً من الشبهات على كل صعيد ومع ازديادها لم تنقطع الاتهامات الموجهة إليه، ومن أخطرها الانفراد والتسلط واغتصاب كل أدوات السلطة، خلافاً للدستور، والتمهيد لإقامة دكتاتورية جديدة. وإذا ما تجاوزنا من يقول بذلك من الأطراف المعارضة من خارج التحالف الوطني الشيعي، لأن في ما يقولون مثل ما قيل في "قميص عثمان" فان شركاء رئيس الحكومة وكتلته، هم الأعلى صوتاً في سَوق مثل هذه الاتهامات ودق نواقيس الخطر في كل حين.

لكن هذه الأحوال لا تجد لها ترجمة ملموسة من شأنها، على الأقل، وقف التدهور في الوضع السياسي، وتطويق الأزمات التي "تتوالد" كل يوم، واتخاذ خطوات موحدة للجم من يعرّض البلاد، كما يقولون هم، الى مزيد من التدهور، باعتماد احكام الدستور والركون الى مبادئه تحت قبة البرلمان، وليس بعيدا عنها أو بأي صيغة أخرى، قد تبدو مكيدة أو تآمراً أو توجهاً لشق "وحدة الشيعة" والتفريط بـ"مختار العصر".

إن كل أطراف العملية السياسية، وفي المقدمة منها قوى التحالف الشيعي، أصبحت من حيث تدري أو لا تدري، اسيرة أهواء السلطة ومناوراتها وماكنتها الساحقة، وإغراءات امتيازاتها ومنافعها المرئية وغير المرئية وبلاويها. وهي إذ تُستدرج وتتعرض للتخدير بالوعود على حساب الغير، "كلاً على انفراد"، تقع ضحية أوهام السلطة وخداعها الذي لا ترحم. وإذ تتوهم، بحنكتها وهي تناور، تشتط ابعد من ذلك فتحسب الفتات مكسباً حلالا، مع إنها بالركون إلى ذلك، أرادت أم لم ترد، تساوم على مستقبلها هي، كقوة سياسية، مثلما تراهن على مستقبل العراق والعراقيين ومصائرهما. ولأنها لا تسترجع عبر ودروس رصيد التجربة السياسية التاريخية للحركة الوطنية العراقية وما ساقته إليها من ظروف وصروف، بسبب غفلتها وضعف وعيها وانجرارها في التعامل مع الطامعين بالسلطة وأشباه الحكام المهووسين، سيجدون قواهم في الافخاخ التي تتربص بهم وتتوسد هاماتهم لبلوغ أهداف غير مشروعة.

وعلى الضد من شعارات الوحدة والشراكة والتوافق الوطني التي استندت إليها العملية السياسية، تسود البلاد الآن، كما لا يبدو للعيان ولا يدخل في حسابات القوى السياسية وكتلها وقادتها، ظاهرة تفتيت القوى وقضم للدولة وكسر لشوكة أدواتها ونزوع لا ينقطع لإخضاعها بالكامل لغير ما ينص عليه الدستور، بل يجري بسلاسة مشابهة، قضم الكيانات السياسية وتشتيتها وإخضاع أركانها، لا لغرض استكمال بناء الدولة الديمقراطية الاتحادية، وفقاً للدستور، أو لأغراض حماية امن البلاد وصون سيادتها ولا لأي غرض يستجيب لمصالح المواطنين ويرفع عنهم الحيف والتعدي، بل لتكريس سلطة الفرد المستبد وهيمنته المطلقة.

لقد أمكن، بأساليب موصوفة، باتت مكشوفة للعيان، تجريف "العراقية" وتحويلها الى شُعبٍ وقبائل متنافرة، واستخدم في عمليات التجريف، ما بات معروفاً بملفات المستور من عورات دولتنا اللا دولة. ويتواصل العمل على استكمال تركيع من لم يركع أو تجريده من أية حصانة، بما في ذلك الحصانات التي تعهدت بها العملية السياسية لمن ينخرط فيها صادقاً مبرءاً من العبث. لكن هذا التجريف والاستهداف للتشتيت لم يقتصر على "العراقية" التي يسهل تبرير استهدافها امام العراقيين بشبهات وتوجسات، بعضها يتداخل مع البعض الآخر، وإنما امتد ليشمل كل شركاء الكتلة الواحدة، بدءاً بقضم المجلس الأعلى وانفصال منظمة بدر من كيانه الذي نشأ في رحمه، ثم تمدد في محاولة للتجاوز على التيار الصدري، ملوحاً بين آونة واخرى بوجود من ينتظر اللحظة المناسبة للانحياز او من خلال تقريب قوى يُراد توظيفها كرسالة تحذير. وتظل دولة القانون ومن يستظل في إطارها، وبينهم كثرة من الوطنيين الذين لا يمكن الشك في سويتهم وسرائرهم الوطنية، تبدو كما لو انها أسيرة ما يتقرر لها وليس بين مكوناتها وأفرادها من يرى الخطر الداهم على التجربة او لديه ما ينصح به أو يحذر.

ولم تبق كردستان بمنجى عن محاولات العبث وتفريق الصفوف لولا يقظة القوى فيها وافتضاح السياسة التي تستهدف قضيتها. وفي كل هذا الذي يجري، ليس ثمة جامع يجمع بين مفرداته والعمل المطلوب لتكريس التجربة الديمقراطية وتعزيز مواقع الدولة وسيادة سلطة القانون، بل على الضد من ذلك تماماً. والآتي سيكون إمعاناً في الضرر الذي يستهدف ويصيب كل طرفٍ على انفراد، وكلها مجتمعة، وقبلها جميعاً تعريض مستقبل العراق وشعبه، ومصائر الأجيال القادمة إلى أفدح الأضرار. أفليس في هذا ما يكفي لتضافر قوى الجميع لوقف التدهور والانهيار؟ فهل من يقظة وهل من نهوضٍ واستنهاض، قبل ان تتفكك بُنى الدولة ولا يبقى فيها ما يُقضَم؟ وقبل ان تتمزق اطراف الكتل والقيادات ولا يبقى فيها ما يُهَمَّشْ ؟!

تعليقات الزوار

  • نبوخذنصر

    نعم يافخري كريم نرجوكم اكتبو ولا تسكتو ان هولاء يخافون ولا يستحون

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top