التسلّط والخضوع .. علاقة المرأة بالرجل في المجتمع العراقي

آراء وأفكار 2012/12/30 08:00:00 م

التسلّط والخضوع .. علاقة المرأة بالرجل في المجتمع العراقي

تفاجئُنا الإحصاءات الرسمية بحجم التسلط الواقع على المرأة في العراق،وبالرغم من أن الأرقام لا تعكس الواقع كما هو بسبب صعوبة انتزاع الحقائق من نساء أجبرتهن بيئتهن الثقافية على الصمت عن القهر والعنف والتكتم عليه ،إلا أنها تعطي مؤشرات هامة يمكن البناء عليها في فهم دينامات السيطرة والخضوع التي تحكم حياة الجنسين في مجتمعنا.

في آخر مسح أجراه الجهاز المركزي للإحصاء ظهر أن 40% من النساء واقعات تحت تسلط الرجل التام على كافة أمور حياتهن، ويخفي الواقع أرقاما أعلى من ذلك بكثير.

ويشير التسلط إلى القهر والقدرة على الإخضاع ،ويعني في العلوم الاجتماعية قدرة الرجال على فرض إرادتهم على المرأة وإنزال العقوبات أو التهديد بها على من لا تطيع أوامرهم أو تمتثل لطلباتهم.

 

 

 

يعد التسلط الشكل الأكثر وضوحا للعنف رغم عدم الاعتراف به كسلوك دال على العنف حتى من قبل النساء أنفسهن ،ذلك أن أي فعالية تسلطية تنطوي بالضرورة على ممارسة للقوة والعنف  في أقصى درجاته ومختلف اتجاهاته كما تنطوي على استعداد لممارسته في أية مناسبة. وبالتالي لا يمكن لفكرة التسلط أن تقوم من غير عنف بكل ما يشتمل عليه الأخير من نزعة إلى القهر والأذى والعدوان!

أكثر أشكال التسلط الذي تتعرض له المرأة اليوم كما وردت في المسح هو الغيرة والغضب يليها الحد من  حرية المرأة وحركتها من خلال فرض الزوج على زوجته الحصول على إذنه  وموافقته حتى في حالة حاجتها للذهاب إلى الطبيب أو الحصول على رعاية صحية.

مراقبة الحياة الخاصة للمرأة أحد أشكال التسلط المنتشرة على نطاق واسع رغم أن الأرقام الرسمية توهمنا بنسب منخفضة لهذه الظاهرة إلا أن المختص يعرف جيدا كيف أن المعلومات المستحصلة من استمارة الاستبيان تغيّب الكثير من التفاصيل التي لم ترد في ذهن واضعها وكيف أنها تعمل على إنتاج  واقع مختلف عن الواقع الذي تعيشه المبحوثات يصوغه الخطاب المهيمن أو المعبر عن سلوك مأمول أو مصادق عليه من قبل المجموعة الاجتماعية التي تنتمي إليها المبحوثات  ورغم ذلك أعطى المسح مؤشرات لا غنى عنها لفهم واقع المرأة.فأكثر من ثلث النساء في العراق يعترفن بمعاناتهن من إصرار الزوج على معرفة مكان تواجدهن  وتحكمه بعلاقاتهن الاجتماعية بهدف عزلهن عن محيطهن الاجتماعي  سواء بمنع المرأة من الاتصال والتواصل  مع أقاربها  وإن كانوا من الدرجة الأولى (الأهل) أو منعها من رؤية معارفها وصديقاتها.فضلا عن المنع من مواصلة التعليم والمنع من الخروج للعمل ،والحقيقة أن منع الإناث من إكمال  تعليمهن  كسلوك دال على التسلط لا يرتبط بالزوج  ،فغالباً ما تنخفض رغبة الإناث بمواصلة السعي  للحصول على التعليم أو العمل بعد الزواج بسبب تكريس المرأة لأعمال المنزل ورعاية شؤون الأسرة والأطفال بعد الزواج. إلا أنه يرتبط بشكل كبير  بحياة المرأة قبل الزواج ،إذ يكون الآباء والأشقاء عادة مصدر هذا النوع من التسلط.وقد أكدت نتائج مسح الأوضاع الاجتماعية والصحية للمرأة هذه الحقيقة ،إذ أشارت إلى أن  7 سيدات من كل 10 في عمر 15-54 سنة لم يكملن التعليم الذي يرغبن به ،وأرجعت ثلاث سيدات من بين هؤلاء السبع السبب إلى عدم سماح أسرتهن بمواصلة التعليم !

هذه نماذج وأمثلة من السلوكيات الدالة على سلوك السيطرة يقدمها المسح بوصفها مؤشرات لقياس ظاهرة التسلط الذي عانته النساء في العراق إلا أن الواقع يظفر بألوان عديدة من القمع الممنهج  الذي تخضع فيه المرأة إلى القسر سواء بالترهيب أو الترغيب يفرض عليها إما القيام بأفعال أو الامتناع  عن القيام بأفعال سواء في التفكير أوالقول أو السلوك.

ومرة أخرى توهمنا الأرقام بأن تغيراً قد طرأ على انتشار السلوك الدال على التسلط والتحكم في حياة المرأة ، ففي مسح صحة الأسرة في العراق عام 2006 بلغت نسبة النساء اللواتي تعاني هذا الشكل من العنف 83٪ ،أي أن نسبة تعرض النساء لهذا الشكل من العنف قد انخفض إلى النصف في الفترة التي تفصل مابين المسحين ،وقد يبدو لأول وهلة أن هذا الانخفاض مرتبط بالسياقات الظرفية، إذ أجري مسح الأول في ظروف العنف الأهلي الذي شهده العراق والذي بلغ ذروته عام 2007  .ومن المعروف أن المرأة في ظروف النزاعات تكون معرضة بشكل أكبر للعنف ، إذ عززت الأوضاع الأمنية المتردية من سلطة الضبط الأبوية بكل ما تنطوي عليه من مبررات للعنف

ولكني أخشى أن الواقع يفصح عن قراءة أخرى لأسباب هذا الانخفاض، فالتسلط على المرأة  لم ينخفض نتيجة للاستقرار النسبي في الوضع الأمني ،ولكن الذي انخفض هو شعور المرأة به وإدراكها له وفضحها لأمره بعد سنوات من التطبيع والإخضاع حتى باتت الأفعال التي تضمنها استبيان المسح غير دالة على مواقف تعيشها المرأة العراقية التي تطبعت وخضعت تماما للتسلط  واعترفت به كحق طبيعي للرجل بحيث أصبحت لا تطالب أصلا بما هو ليس حقا لها من وجهة نظرها وتنازلت عن هذه الحقوق لمن له سلطة عليها .

ومع توجه المجتمع نحو المحافظة والانغلاق بعد أن تعزز دور المرجعيات الثقافية التقليدية وسيادة القيم النمطية حول النوع الاجتماعي وزيادة المركزية الذكورية.  أصبح التكتم على مثل هذه الأفعال وعدم الإفصاح عنها قيمة تحرص المرأة على المحافظة عليها .

لقد طبق المسيطر على النساء مخططات السيطرة كما يقول بورديو فأصبحت إدراكات النساء وأفكارهن مبنية  وفقا لنفس بنيات السيطرة المفروضة عليهن ،لذلك فإن أفعالهن تكون حتماً أفعال  اعتراف وخضوع .

على من يزداد التسلط؟

أظهر التحليل المعمق لنتائج المسح أن تعليم المرأة لا يحميها من تسلط الرجل وسيطرته ولا توجد فروقات بين النساء العاملات بأجر وغير العاملات في تعرضهن للتسلط ،بل العكس خلق عمل النساء مجالا أوسع أمام تسلط الرجال من خلال الاستيلاء على رواتبهن، كما أدت مشاركة المرأة في المجال العام إلى زيادة فاعلية التسلط عليها كرد فعل على تهديد لسلطة الرجل، ومقارنة بالسيدات في عمر 45-49 فإن احتمال تعرض النساء  للتسلط في الأعمار الأقل تزيد، كما يزداد احتمال التعرض لسلوك التسلط بزيادة عدد سنوات الزواج ، الملفت للنظر أن تسلط الرجل يزداد بارتفاع مستوى تعليمه ، والأزواج الذين يعملون أكثر ممارسة لسلوك السيطرة  مقارنة بالذين لا يعملون.وكانت النساء في الحضر أكثر تعرضا لتسلط الرجل من الريف . مما يعني أن المهيمنات الذكورية العشائرية هي التي تحكم حياة المرأة حتى داخل المدن، وأن مفاهيم العشيرة وقوانينها أصبحت مجالا حيويا لامتلاك الواقع بعد تنامي دورها وازدياد نفوذها.

ومقارنة بمحافظة البصرة ، كانت النساء في محافظات: القادسية وكربلاء والأنبار وبغداد وديالى وبابل وميسان وذي قار ونينوى وواسط وصلاح الدين أكثر تعرضا لسلوك التسلط من الرجل. بينما كانت النساء في محافظات النجف ونينوى ودهوك والسليمانية وأربيل وكركوك أقل تعرضا لهذا النوع من العنف .

إن من أهم عوامل الخطورة التي تزيد من احتمال تعرض المرأة للقهر والتسلط هي القيم الثقافية المتعلقة بالنوع الاجتماعي ، منها النظرة  النمطية لأدوار الجنسين والنظرة للعلاقة بين الرجل والمرأة والنظرة للمساواة  والموقف من حقوق المرأة، ما يؤكد حقيقة ارتباط التسلط باعتراف المجتمع بحقوق المرأة وإحقاقها .

اتجاهات الرجال نحو التسلّط

عبّر الرجال في المسح الذي أجراه الجهاز المركزي للإحصاء عن قناعات شبه راسخة بضرورة سيطرة الرجل على المرأة والأسرة ،وأيد ما يقرب من ثلثي الذكور المشاركين في المسح  الأفعال الدالة على التسلط بوصفها حقا للرجل. فهم يعتقدون أن السيطرة تعطي  للرجل هيبته ،في حين أن التفسيرات العلمية تؤكد أن السيطرة والتسلط يمنحهم وهم السمو والقوة . ويعتبر بيير داكو  أن الرجال الذين يمارسون فعالية القهر والإذلال يشعرون بأنهم أنجزوا عملا عظيما. فهم ينظرون إلى السلطة كغاية بذاتها لما توفره لهم من أمن داخلي ،فهي  تعويض نفسي للوجود والاستمرار.

وتعكس اتجاهات الرجال ميلا إلى السيطرة على حركة المرأة وعزلها ومراقبتها، إذ بلغت نسبة الرجال الذين يعتقدون بحق الرجل في منع زوجته من السفر  92 %، أو الذهاب إلى المركز الصحي لغرض المعالجة  49.5 %، كما بلغت نسبة الرجال الذين يرون أن من حق الزوج مراقبة الزوجة ومعرفة مكان تواجدها  60.5٪ ،وأعلى درجات السيطرة وصلت إلى التحكم بلبس المرأة ،إذ يرى ٪74.6 أن من حق الزوج اختيار ملابس زوجته وبناته.

كما تعكس إجابات المبحوثين الرغبة في السيطرة على خيارات المرأة في مجالات مختلفة ،إذ أظهرت النتائج موقفا لا يعطي الحق للمرأة  في المشاركة في الحياة العامة، وبلغت نسبة الرجال الذين يعتقدون بحق الرجل في منع المرأة من العمل 46.6٪ ، ومنعها من المشاركة في الانتخابات 40.4٪ ،وبشكل أقل وطأة منعها من حقها في إكمال تعليمها 36.5٪.

ويأتي تسلط الذكر في إطار تأكيد هويته الرجولية ،فتشكيل الهوية الرجولية  يرتبط بقدرة الرجل على إخضاع المرأة لسيطرته  وإن كان باستعمال العنف لإثبات سلطته وحمل الآخرين على الرضوخ لها بمن فيهم المرأة .

إن صورة الرجولة والأنوثة السائدة في المجتمع تشكل أحد  مصادر وأسباب التسلط  ،وهذه الصورة تدعمها ممارسات الرجال والنساء معا .

وتقوم فكرة الرجولة على مبدأ الهيمنة الذكورية التي تقتضي الصراع والإقصاء للمرأة من أجل إثبات  الرجولة والزعامة بدلالاتها المختلفة. وفي هذا السياق يحدث العنف ، إما بشكل دائم  ، باعتباره مبررا ومعترفا كأحد مقتضيات الرجولة، أو باعتباره إجراء عقابيا أو تأديبيا، إذا خرجت المرأة  عن قواعد اللعبة أو لعب دور الطرف الآخر المحدّد سلفا ! وهذا ما يجعل الرجولة موصولة بالضرورة بالتسلط.

تطبيع السيطرة

يعمل النظام الاجتماعي على تنظيم علاقات السيطرة  وتطبيعها ،أي جعلها طبيعية ،فهو بمثابة آلية رمزية هائلة على حد تعبير بوردييو يعمل على إدامة الهيمنة الذكورية والمصادقة عليها.

وتلعب السلطة الرمزية دورا في هذا المجال . وينظر بورديو إلى السلطة الرمزية من حيث هي قدرة على تكوين المعطى  عن طريق العبارات اللفظية والإنتاج الرمزي ،ومن حيث هي قوة على الإقناع وإقرار رؤية عن العالم أو تحويلها.

ويفرض الطرف المهيمن  قوانين وتصورات عن العالم  بمن فيه المرأة .أما المرأة فتتمثل هذه التصورات وتتبناها وتعتبرها من المسلمات وتشرع تدافع عنها ، وهذا التواطؤ مهم لتمرير السلطة  وجعلها مشروعة وهذا التواطؤهو ما يسمية بورديو العنف الرمزي حيث تشترك الضحية مع الجلاد بنفس التصورات عن العالم وعن مشروعية العنف الممارس ضدها . إذ تتشرب المرأة في سياق حياتها التربوية وتتشبع بمنظومة من المفاهيم التي ساهم الجهاز الذكوري في تشكيلها وتتحدد في ضوئها  توجهاتها السلوكية ،فالرموز التي تمثلتها النساء تعمل على توجيه سلوكهن نحو الخضوع والاستسلام للسيطرة والتسليم بمشروعيتها.

والعنف الرمزي هو شكل من أشكال السلطة التي تمارس على المرأة بتواطؤ منها ، وينزع إلى توليد حالة من الإذعان والخضوع  عند النساء من خلال فرضه نظام الأفكار والمعتقدات ومحاولة ترسيخها في أذهان الذين يتعرضون لهذا النوع من العنف.

تواطؤ الضحايا

يظهر العنف الرمزي جليا في اعتراف النساء المشاركات في المسح بحق الرجل في ممارسة التسلط عليها ،إذ ترى 82%من النساء العراقيات أن منع المرأة من السفر أو الذهاب إلى المركز الصحي حق مكفول للرجل.

أما السلوكيات الدالة على الغيرة والرغبة في تملك المرأة ،ومراقبة سلوكها ،فلا تعترض عليها 63.4٪ من النساء ولا تعرّفها على أنها عنف .

وتعكس هذه النتائج ارتباكا ولبسا في فهم المرأة لحقوقها وإنها في تحديدها هذه الحقوق قد تمثلت إيديولوجيا الرجل والمجتمع نفسه .فالحقوق التي تعكس استقلالية المرأة، مثل الحق والحرية في السفر والحركة والحق في الخصوصية وعدم المراقبة والحق في الانتخاب والترشيح قد تنازلت عنها المرأة وأعطت هذا الحق لمن له سلطة عليها.

وعند مقارنة إجابات النساء مع إجابات الرجال حول الموقف من التسلط نجد أن النساء يشتركن مع الرجال بنفس القيم والتوجهات ، والأكثر من ذلك نجد أن النساء ير ين أن من حق الرجل ممارسة التسلط عليها أكثر مما يراه الرجال أنفسهم كحق لهم.

مثال على ذلك: أعطت 62٪ من النساء للرجل الحق في منع زوجته من المشاركة في الانتخابات، في حين أعطى40٪ من الرجال الحق للرجل. وتعكس مثل هذه الأمثلة أن هناك قبولاً طوعياً لتسلط الرجل وهيمنته. حيث تمت تهيئة المرأة خلال عملية التنشئة الاجتماعية بطريقة تجعلها تتقبل العنف وتراه حقا من حقوق الرجل من خلال تأطير رؤاها وأفكارها بالمفاهيم والتصورات حول الذات الأنثوية وطبيعة العلاقة غير المتكافئة بين الجنسين ومرتبتها المتدنية مقارنة بمرتبة الرجل.

هذا القبول الضمني بالعنف والتسلط هو شكل من أشكال العنف الذي أفرزته آليات الهيمنة الذكورية. إذ تتم السيطرة على المرأة وفرض الهيمنة عليها ليس عن طريق القوة الصريحة وإنما من خلال الرموز والمعاني التي ينتجها الطرف المهيمن لتعزيز قوته ،وتتبنى النساء هذه الأفكار بوصفها حقيقة مطلقة، فتصبح الضحية تشترك مع الجلاد بنفس التصورات عن العالم وعن المرأة وشرعية العنف الممارس ضدها !

والأمر المثير للقلق هو أن إدراك المرأة للتسلط وموقفها منه لم يتغير على مدى خمس سنوات، ففي المسح الذي أجري عام 2006 أظهر النساء  ذوات  الموقف المتقبل لتسلط الرجل وفرض سيطرته عليها.

تعليقات الزوار

  • سارة

    لو سمحتوا .. ممكن اعرف الاحصائية في بداية التقرير ما مصدرها؟ احتاجها في رسالة بحثية

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top