في المعرض الشخصي للفنان مهند دروبي..وجوهٌ وتراتيل من بيت أحزان الطفولة

في المعرض الشخصي للفنان مهند دروبي..وجوهٌ وتراتيل من بيت أحزان الطفولة

ازدهرت رغبات التعبير حرة... طليقة في زهو مراسيم الاحتفاء الطوعي الذي أقدم على إقامته الفنان التشكيلي (مهند دروبي/ توالد بغداد1979/بكالوريوس فنون تشكيلية/كلية الفنون الجميلة2003) عبر ملاك معرضه الشخصي الأول ( قاعة نخلة ببغداد12/ كانون الثاني/2013) متخذاً من الطفولة ورسم الوجوه (بورتريه) معبرا تمهيديا سعى إلى تقليد أوسمة الحزن لتلك الوجوه المرسومة بروح الدعابة والمكر والتمرد الحاذق في بث نوع من مهارات تلك الفكاهة القاتمة التي تصادر الطمأنينة كي تبادلها بمشاعر من خوف وهواجس قلق مجد وخلاق في تمرير مباغتات انفتاحه الضمني بغية تفويض حالات وأوضاع نفسية-حسية صادمة لها قدرة التماهى مع مكملات الوعي والسياق البلاغي (إن صح الاشتقاق-هنا-  نعني في ما يتعلق بالفنون البصرية بنحو أبجديتها وقبول قواميسها) ،ذلك السياق الذهني الذي فرض نوعا من (الهيبة الدرامية ) لمعنى محتويات الصورة الدلالية في جوهر فهم (مهند دروبي) لمسالك الفن التشكيلي عبر حداثة خواص التعبير و خوالص بدايات ذلك الفهم الذي يدعي بأن؛( التعبير هو الذي يكسب الأشياء صفة الحقيقة ) على واجب التذكير- مجددا- بفضح معادلة تحاول فك الاشتباك التأريخي مابين عوالم الخيال و مسلمات الحقيقة، حتى تتجاوز تلك المعادلة بعمق صوتها و قوة صداها الإبداعي حين تعلن بأسى و استهجان:( لماذا هذا الإصرار على فصل الخيال عن الحقيقة ؟!) ولتتواثب  حدة ذلك الإصرار وتتوحد مع  استغراب مماثل  لسؤال ( ماركيز) أو- ربما- أحد أقران واقعيته السحرية وهو يقفز متسائلا بحيرة :( قل لي ما الذي لا يستطيع أن يفعله الخيال ؟! )،ومع هذا يجب عدم التفريط  بأهمية الواقع على أنه مجرد سطح ظاهري،بل هو- قطعا- مديات أعماق و دلالات.

  مقتربات كالتي أوردناها تضع محاولات ومنجزات ( مهند دروبي ) في متن معرضه الذي حمل عنوان ( تراتيل طفولة ) في مأمن قصدي يساند فكرة الاختفاء وراء أقنعة ذات مصدات تحريضية سعت لأن ترتل وتتهجى حروف عذابات متنوعة وحالات وجدانية عامة ليس من شأنها أن تنحصر أو تنفرد- أصلا- بعالم الطفولة وإغراءاتها السحرية وملكاتها العفوية،فضلا عن كونها المرحلة العمرية الهامة والحاسمة في حياة الإنسان ومنها تنطلق عموم ملامح الشخصية صوب مجاهيل المستقبل ،لذا استند (مهند) على متممات تلك المرحلة- في أغلب الأعمال- لكي يمرر مهارات وعيه الأدائي بإتقان ومهارة وحيوية فاضت بروح ونسق ذلك الوجد اللوني لمادة ليست سهلة هي (الاكريلك)- مواد مذابة بالماء- استطاع تطويعها وتهذيب نتائجها متوصلا لصدق نجاح حرفي وموهبة كانت تعاضد ذلك الجهد وتديم لغة التعبير وتخضيب الجمال بالقبح،و تسويغ القبح بالجمال من فرط مهارة الإحساس ودقة التنافس الحر والنوعي برهافة ولعه الواثق بقدرة التعبير على ترسيم خلاصات وعيه الجمالي و مدركات نتائج ما توصل،رغم مغامرته بالسير حثيثا ما بين حقول ألغام السوريالية وانشداد ونشدان أصحابها الدائم للغرابة والتغريب ومحاذير اقترابها- ولو بنسب وحالات معينة وخاصة- لفن الكاريكاتير الذي كان قد أطلق عليه (سلفادور دالي) في بدايات انطلاقاته  واستعمالاته الصحفية بـ(فن المستقبل) ومتطلبات التعبيرية باعتباره علما عاما لعموم نواحي وانشغالات الفن تدخل فيه (الاستاتيكا) كجزء متمم وتابع أو إضافي أو عرضي،إذ ليس لأي عمل فني قيمة اعتبارية وجوهرية،إلا بالقدر الذي يشد ويدهش بشدة الانهماك والمثول في طبيعة ذلك الموضوع، كما فعل (مهند دروبي) بتشخيص التعبير نهجا إبداعيا واعيا مستفزا لوهج قدرات متقدمة برع بالحفر عليه مجترحا مياسم الوصول إلى دواخل شخصياته المعذبة واللاهية بطرح معاناتها و لامبالياتها بإزاء ما يحصل في الواقع و مجريات الحياة من إرباك  ولوعة وفوضى وضياع ...وجوه طافحة بالترقب والنفور... وأخرى لائبة بدعابات حزن مقيت جراء خوفها  من ماض مجحف و قادم مجهول... مفارقات ملامح لمهرجي سيرك (بليلتشوهات) بهيئات مزدانة باضطراباتها، محاطة بأوجاع غامضة وأفراح أضحت بعيدة وليس من أثر لاحتمال عودتها من فرط إحساسها المضني بسبب التشوه والتغير والتبدل الذي أصاب أشكالها مثلما أصاب دواخلها و قيعان أرواحها المثقلة بلا جدوى الأنين وخزين ملابسات الأسى - بل- كل تأريخ الخسارة البشرية، التي حاول تجسيدها الفنان في متحف الخوف و الألم الذي حاول فيه بث تراتيله بالعزف على أوجاع ملونة،ناور على إيهامنا-عمدا- بأنها تراتيل طفولة !! إي نعم .... لكنها طفولة واعية- قاسية، حانية ومعبرة في ذات البوح و الانفتاح.

  ثمة قصد إجرائي ملحوظ المسعى تمالك في تبنيه قصدا (مهند دروبي) في مجمل لوحات معرضه المسكون بقوة خطوطه و ازدهارات ألوانه ووفرة معاني غايات الإنسانية بتطويع أثر وسطوة العزلة داخل إطار وموضوع العمل الواحد،الذي فضل أن يكون  متفردا باحتواء وجه أو شخص واحد على حدة،في سباق تماثل روح الفرد مع مرآة نفسه المتدثرة والمحتمية بأغطية أحزان ووحدة تسلط أفكار ذلك الوجه الماثل في عتمة هواجسه وكوابيس أحلامه كمعادلات نفسية ودفاعية- تعويضية لقيمة الفعل الدرامي وهو يعزز  سلامة الغرض وسلامة مسعى الفنان المثابر في توريد معاناة وجوه أبطاله وهم يهيمون داخل مداراتهم وضيق مجالات محيطاتهم،بما أعطانا إحساسا ضمنيا غامرا بقوة ومهارة التعبير الكلي داخل اللوحة الواحدة من جهة، والى تنوع استجابات ومشاعر ودواخل بقية الوجوه التي رافقت عناء تلك الرحلة  الإنسانية السامية من جهة أخرى،نازع في اقتراحها  علينا الفنان (دروبي)في تمرير مهاراته و توضيح مقاصد اندفاعاته الأدائية المتمكنة من تمهيد ثقة الوضوح و تثمينها لصالح الانضمام و الانتماء لفكرة المغايرة والفوز بلذة التميز وجواهر الانخراط  بسلك التفكير المجدي والوثاب الذي أفصح عنه مرارا الفنان الفرنسي (سيزان) مناديا : (إنني أريد أن أرسم ... وكأن رساماً آخر من قبلي لم يقم بهذه المهمة ).

تعليقات الزوار

  • مهند دروبي

    المقال أكثر من رائع ..أثار دهشتي مثلما أثارت اﻻعمال دهشت الناقد حسن عبد الحميد..أستطيع القول أنا الناقد فك شفيرة اﻻعمال و دخل في عوالم مختفية وراء الخط و اللون و خامات العمل......اصفق لك بحراره استاذ حسن على ملكة النقد المتوفره لديك.و التي ﻻ تطلب بسهولة

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top