العراق السياسي بين أزمة التاريخ وفخاخ الجماعات

آراء وأفكار 2013/02/08 08:00:00 م

العراق السياسي بين أزمة التاريخ وفخاخ الجماعات

لحظة عراقية فارقة تلك التي تكشف عن(طبائع الصراع) في المشهد السياسي العراقي، وعن مخاضاته وتحولاته الأقرب تمثلا لمظاهر العنف الرمزي والعنف الواقعي. هذه اللحظة تجوس في عوالم غريبة لجماعات تطمئن لفكرة التاريخ أكثر من اطمئنانها  لفكرة الدولة، بوصف هذه الدولة منظومة جامعة مهذبة للتاريخ ولقواه التقليدية، وطاردة لأنماط الجماعات المهيمنة، والقابلة بفكرة الجماعات المتآخية..ولعل تاريخ العراق السياسي الصراعي يحمل الكثير من مظاهر  تاريخ هذه الجماعات الطاردة والمهيمنة، وحتى مفهوم الدولة التاريخية الحاكمة في العراق كان جزءا من سسيولوجيا الحكم المرتبط بأدلجة الجماعة وطرائقيتها في التعاطي مع الجماعات الأخرى.

الصراع مابين الجماعة والدولة، هو ذاته الصراع مابين التاريخ والمستقبل، إذ أن تمظهرات هذا الصراع هي أكثر كشوفات (اللحظة الفارقة) تجوهرا في سياق التعاطي مع مظاهر الصراع الجماعاتي، إذ هو  صراع مسكون بالحشد المهيج، والنصوص القائمة على فكرة تغالب الجماعة، وكل ما يتساقط من مراثي العقل الجمعي النكوصي.

هذا التوصيف لظاهرة الجماعات المتصارعة يرتبط أساسا بعقدة ما تؤسسه السياسة المهيمنة- سياسات الحكومات أو سياسات الجماعات- من معطيات تنعكس على طبيعة القوة المهيمنة، قوة العسكرة والرفادة والسلطة، أي الهيمنة على الثروة ومصادر العنف وعلى معابر الجغرافيا الاقتصادية، جغرافيا طرق الحرير المثيولوجية، والتي تحولت في معطى(اللحظة الفارقة) إلى طرق للنفط والغاز والهيمنة..

العراق السياسي ما قبل 2003 هو غير العراق ما بعد هذا التاريخ، ليس للتغيير الحاصل في الحاكميات، بل في طبيعة هذه الحاكميات توصيفها وتوجهاتها، وعلائقها مع محيط سياسي واقتصادي مشوه ومكرس ولم يعد محكوما بذات الثنائيات القديمة، حيث العدو الإمبريالي، وحيث الصديق اليساري..فهذه الثانية تلبست أقنعة أخرى بعد موت اليساري الكبير، وبعد ألفة وحميمية الإمبريالي القديم الذي أعاد ترتيب البيت العراقي وبعض مظاهر البيت العربي، وأعاد بوصلات التوجهات داخل المكان العربي والإقليمي في ضوء ما تمخض من التعالقات والحسابات الأمنية والمصالحية..

تمظهرات الصراع الحادة في المنطقة الإقليمية هي صراعات ترتبط في جوهرها بالهيمنة الاقتصادية وطبيعة توجيه الثروة، وتصفيف القوى الدولية وحساباتها في سياق معطيات السيطرة على الثروة، وعلى الجغرافيا التي ستتحكم بمسار هذه الثروة، خاصة وان العراق السياسي سيكون عراقا نفطيا مهددا للآخرين، وعراقا ثقافيا تسنده قوة بشرية وتاريخية وتعليمية ضخمة قد تعيد توزيع الأدوار في المنطقة، مثلما ستكون أكثر تهديدا للجغرافيا التقليدية بعد العمل على تنفيذ مشروع الجغرافيا المضادة والخاصة بإنشاء(طريق الشرق السريع) أو طريق البحيرة الجافة الذاهب من العراق عبر سوريا إلى أوروبا دون المرور بالمضايق التقليدية ،كمضيق هرمز أو باب المندب أو قناة السويس..

المشكلة العراقية والحلول العراقية

تصعيد الأزمة العراقية فيه الكثير من الافتعال، وفيه الكثير من التضخيم، خاصة في مجال اختيار وجه الأزمة عبر إبراز الصراع الطائفي، أو الصراع القومي فيها بطريقة مثيرة للجدل وللعنف، ورغم تاريخية هذين الصراعين إلاّ أنهما لم يتحولا إلى عامل فرقة وتصادم بين الناس الخاضعة إلى سلطة المراكز القوية منذ قرون طويلة، لذا فان إبرازهما الآن كوجه عنفي للازمة، يعني البحث عن أسباب ضاغطة لمواجهة ظاهرة العراق الجديد ما بعد عام 2003، ومنع نشوء أية قوة إقليمية جديدة تملك القدرات اللوجستية الكافية لصناعة مركز ستراتيجي اقتصاديا وسياسيا ورمزيا.. الصراعان الطائفي والقومي من السهل حلهما في ظل معطيات واقع الدولة العراقية الجديدة وطورها الانتقالي غير المكتمل، وفي ظل وجود دستور رسمي لهذه الدولة يحظى بتأييد الأكثرية من الشعب ومن الفرقاء السياسيين الذي يضم أحكاما وتشريعات تمنع نشوء المركزة، وتقرّ بوجود التعددية والتنوع، وتعترف جهارا بان النظام السياسي في العراق هو نظام فيدرالي تعددي..لكن سعي البعض الحثيث لإبقاء الأزمة مفتوحة يؤشر على طبيعة ما يحوط بها من موجهات خارجية وداخلية تدفع باتجاه تضخيم الأزمة، ومن ضواغط تفكر بطريقة غريبة لإعادة إنتاج أشكال معينة للهيمنة القديمة، والعمل على ترتيب ملفق لواقع البيت العراقي ولمصالح الدول الإقليمية وغيرها بعد الانتهاء الافتراضي للأزمة..

سؤال المشكلة/ الأزمة يقتضي أساسا مواجهة حقيقية لهذه الأزمة، وإيجاد المعالجات القانونية لها، وليست التاريخية، إذ أن تعميق الوعي بالحقوق المواطنية يعني فك الاشتباك مع التاريخ المأزوم، وإعادة الاعتبار للمواطن والقانون، ولنظام المؤسسات، فضلا عن أن هذه المعالجات تعزز قيمة الدولة، وتؤكد توصفيها في ضرورة الحكم العادل، فالحديث عن إلغاء الدستور والعملية السياسية يعني العودة إلى متاهة التاريخ، والى قوة الجماعات الحاكمة والمهيمنة والطاردة، وبالتالي الإبقاء على الصراع بوصفه صراع أزمة وليس صراعا من اجل إيجاد الحلول لأزمة التعايش بين مكونات لم ترث من تاريخها سوى الأزمات وسوى الحاكميات المستبدة..

إن البحث عن حل خارجي للأزمة هو توريط صراعي للجماعات مع جماعات أخرى، وخلق مساحات شائهة من الصعب السيطرة على أخطارها وتداعياتها، لذلك فان الحلّ يكمن في الداخل العراقي، من خلال إبراز المشتركات بين الفرقاء، ومن خلال مأسسة الحوار، أي تحويله إلى حوار مؤسسات تنتظم فيها كل القوى السياسية والاجتماعية والثقافية الممثلة للجماعات بعيدا عن الحلول الملفقة التي يطرحها البعض والتي تواجه رفضا من البعض وقبولا عند البعض الآخر، وهو مايعني فقدان السيطرة على معطى الأزمة، وإعادة الجميع إلى الحافة القلقة، حافة التهديد بالحرب الأهلية التي ستكون حربا عبثية لأنها مرغوبة دائما من الدول والجماعات التي لا تطمئن للعراق النفطي والعراق الاقتصادي الكبير، مقابل ما تتركه من اثر سيئ على تكريس لظواهر السياسات الفاشلة التي تدار بها الكثير من الملفات والأزمات، أي أنها ستبقي على ذات الجماعات السياسية الفاشلة بوصفهم جماعات أزمة، فضلا عن مسؤوليتها في تبديد ثروات العراق والتي ستتضرر منها المحافظات التي تعاني أساسات من أزمات خدماتية وبنيوية عميقة..أو ستكون هذه الأزمات المهددة مصدرا لتقسيم العراق وليس(فدرلته) من الفيدرالية، لأن النظام الفيدرالي يتطلب عادة وجود نظام سياسي آمن تتوزع فيه الإدارات والثروات الوطنية بشكل عادل، وتنتظم فيه السلطات على وفق استحقاقات واقعية وقانونية..

التفكير بالحرب الأهلية وبالفدرلة التقسيمية، أو حتى تعويق صناعة مشروع جمعي للدولة الجديدة، الدولة التي تحترم مفهوم التنوع والتعدد  يعني خلق أجواء معتمة ستتمركز فيها كل القوى العنفية المسحوبة من التاريخ التي ستهدد أيضا أي مظهر حضاري حقيقي لتنفيذ فكرة بناء الدولة العصرية، دولة المشاريع الكبرى والمؤسسات الكبرى والبنى التعليمية والتنموية الكبرى مع وجود القوى العقلانية التي تؤمن بالتحاور والتفاعل والتشارك والتي يمكن أن تستثمر الواقع الاقتصادي الجديد لخدمة مصالحها وللاستفادة باتجاه خلق بيئات استثمارية غير صراعية، وأحسب أن وجود نموذج إيجابي وناجح مثل كردستان العراق يمكن أن يكون مركزا جاذبا لصناعة المدينة الاستثمارية الجاذبة لرأس المال ولحركة الاقتصاد الحر وضمن آليات تعزز فكرة الدولة الاتحادية وفكرة الإقليم بوصفه قوة فاعلة للدولة ولمشروعها السياسي والاقتصادي، فضلا عن جهدها العقلاني في خلق النموذج الإيجابي للفدرلة، ولمنع إنتاج المراكز المهيمنة التي ترتبط عادة بالجماعات، والتي تجد في الأزمات الكبرى ،كالتي نعيشها بيئة صالحة للانتعاش والتمترس واستقدام أجيال جديدة من القوى العنفية التي لا تؤمن أصلا بفكرة الدولة ولا بالديمقراطية بوصفات مظاهر للغرب الكافر.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top