يزداد قلق العراقيين بأطيافهم من التطورات المخيفة التي تتوالى في البلاد، بشكل يستمر بالتصاعد منذ نهاية العام الماضي، حين بدأت الاحتجاجات الشعبية على إجراءات و سياسة السيد المالكي التي تزيد تأزم و تعمّق التوترات الطائفية، بدلاً من السير على طريق التساوي بالهوية الوطنية و العدالة و توازن الدولة، و محاربة الفساد و الفقر و البطالة . .
وفيما تربط أوساط ما يجري بكونه، نتيجة للانسحاب غير المدروس للقوات الأميركية، تربط أوساط أوسع ذلك بكونه تراكمات نتائج سياسة المالكي الفردية التي لم يعد يسترها حتى الادعاء بكونها لصالح مكوّن واحد، عشية موعد الانتخابات المحلية . . حيث صارت الاحتجاجات و التجمعات السلمية تأخذ بالتصاعد والتوسع لتشمل كل الأطياف العراقية المذهبية و القومية، بعد أن حصلت على تفهم ودعم المرجعيات الدينية العليا شيعيّة و سنيّة و دعم الكتلة الكردستانية و كتل برلمانية شيعيّة و سنيّة، للمطالب الداعية إلى العدالة في تعامل الدولة مع أبنائها، التي أدت في ما أدت إلى إقالة رئيس المحكمة الاتحادية العليا القاضي مدحت المحمود، الذي تدعوه أطراف عديدة بالسند المهم للماكي . .
و بدلاً من تلبية حكومة السيد المالكي ما أقرت به من أحقية عدد من المطالب، لجأت إلى تشكيل لجان مكتبية للنظر بمطالب المتظاهرين و إلى اتخاذ إجراءات بإطلاق سراح بضعة آلاف من معتقلين أتموا محكومياتهم و لم يطلق سراحهم و معتقلين لم يثبت عليهم ما اعتقلوا بسببه، إضافة إلى معتقلين و معتقلات اعتقلوا بجريرة ذويهم . . كاشفة بذلك عن انتهاكات صارخة للقوانين المعمول بها والمقرّة دستورياً، فيما تتواصل الاعتقالات بسبب الاحتجاجات .
إضافة إلى تسويفها في اتخاذ إجراءات سريعة لتعديل و ترشيد مادة 4 إرهاب لصالح معاقبة المجرمين الحقيقيين . . و قيامها بدلاً من سعيها العملي لتعديل و ترشيد قانون المساءلة و العدالة (اجتثاث البعث سابقاً) الذي طبّق تطبيقاً انتقائياً انتقامياً طائفياً، خرج عن الدستور و معانيه، التي استهدفت معاقبة مجرمي البعث و اجتثاث الاستبداد و الفكر الدكتاتوري الشوفيني . .
قيامها بإعادة الآلاف من منتسبي المؤسسة العسكرية للدكتاتورية المنهارة ـ بضمنهم كبار من المعروفين بارتكاب أنواع الجرائم بحق الشعب و الوطن ـ، و أصدرت قرارات أجزلت فيها العطاء لكبار رجال حزب البعث الصدامي من أعضاء الفروع و الشعب و الفرق سيئة الصيت باسم (حقوق تقاعدية) . . في وقت تتفاقم فيه معاناة أصحاب الحقوق التقاعدية الحقيقية من ضحايا الدكتاتورية و موظفي الدولة و عوائل الشهداء . . الأمر الذي صار يؤدي إلى عدم الثقة بوعود الحكومة و إلى عدم التجاوب حتى مع جهود الكتل السياسية المتنفذة بسبب تفسير تدخلها بكونه محاولة لجعله دعايات انتخابية لها لدورتين أزف موعدهما في هذه السنة و السنة التي تليها . .
إن التسويف و التباطؤ غير المبرر لحكومة السيد المالكي و إجراءاته القسرية في مواجهة الاعتصامات و التظاهرات و تسييره تظاهرات مضادة لها، و إجراءاته العشوائية في استعطاف بقايا الدكتاتورية المنهارة، لم يؤدِّ إلا إلى تزايد التظاهرات و شمولها مدن المحافظات الغربية و ليس مراكزها فقط من جهة، و إلى تصاعد المطالبات حدة و تطرفاً حتى صارت تطالب بإسقاط السلطة وبإلغاء العملية السياسية و العودة إلى الوراء . . زادت منها خطب الدوري نائب الدكتاتور السابق ورئيس (جيش النقشبندية) الإرهابي(*)، الثأرية الطائفية التي كهربت الأجواء و أخذت تدعو إلى كسر تهدئات المرجعيات الدينية بتأجيل الصلاة في مرقد الإمام النعمان في الأعظميةً . . ثم دعوة البطاط رئيس حزب الله الشيعي إلى تشكيل (جيش المختار) للثأر الطائفي بالمقابل، الذي لم تُتخذ إجراءات جديّة للحد منه، في وقت يصف مراقبون فيه بان تشكيل الجيوش صار في أحوال البلاد أسلوبا مؤسفاً يؤجج الاختلافات بدل حلّها . .
فيما بقي استخدام العنف من قبل الحكومة فاعلا، بوجه المعترضين المدنيين على إجراءاتها، منذ مواجهة المالكي تظاهرات الشباب و المطالبات السلمية أوائل عام 2011 في ساحة التحرير وساحات البلاد بالرصاص الحي، و سقوط عشرات المحتجين و المحتجات قتلى و جرحى . . فيما طورد المئات من عضوات و أعضاء منظمات المجتمع المدني و هُدّدوا و اعتُقلوا و عوملوا بوحشية .
الأمر الذي صار يهدد بطغيان الخطاب الطائفي و صعود الأدوار العشائرية على حساب المواقف السياسية و البناء السياسي الاجتماعي و الأحزاب و منظمات المجتمع المدني و بالتالي الدولة المدنية الفيدرالية القائمة على الدستور، و يهدد باندلاع صراع طائفي أهلي لا يتمناه احد.
و لإيقاف ما يهدد و بعد مرور عشر سنوات على العملية السياسية، ترى أوساط تتسع . . ضرورة إعادة بناء العملية السياسية على أساس أحزاب سياسية، فيما يحذّرون من مخاطر استمرار الصراعات الطائفية مازال هناك حزب طائفي حاكم أو يدّعي بكونه الممثل الوحيد لمكوّن واحد من المكونات، و مازالت العقلية الحاكمة للدكتاتورية و الاستبداد و العنف مستمرة في تحكّمها . الأمر الذي يتطلب: تنحي السيد المالكي، قيام حكومة انتقالية من ذوي الكفاءات المتخصصة تهيئ لانتخابات، إقرار قانون أحزاب على أساس يحدد هويتها و أهدافها و مواردها، وتقبّلها للآخر، و على أساس استقلال القضاء و حرية الصحافة . .
و يرى مراقبون أن اتخاذ تلك الإجراءات، مدعومة بحركة جماهيرية سنية شيعية كردية عراقية بمكوناتها المتعددة التي تتصاعد و تنتظم، يمكن أن تكون منطلقاً لكسر الحواجز الطائفية بتوحيد المطالب و الجهود من أجل إصلاح سياسي جذري بالوسائل الدستورية السلمية، لإنهاء المعاناة المشتركة لجميع المكونات من البطالة، انعدام الكهرباء والماء الصالح للشرب، إلى نقص الخدمات الأساسية للعيش الإنساني الكريم، و تكون سنداً قوياً لدولة قانون حقيقية. . هو الذي يمكن أن يحقق مصالحة اجتماعية ثابتة، تمهّد لانتقال تدريجي من الدولة الطائفية التحاصصية إلى دولة اللا طوائف في الظروف الإقليمية الجارية، الدولة المدنية الاتحادية . . دولة المواطنة.
(*) الذي يرى مراقبون أنه يتحرّك مغطيّاً نشاطاته مالياً بحصة كولبنكيان البالغة 5% من عائدات النفط
العراقي، التي أممتها الدكتاتورية المنهارة و سجلتها باسم حزب البعث الصدامي التي يصف قيمتها
جواد هاشم وزير التخطيط الأسبق بـ ( إن العوائد المتراكمة من هذه النسبة بلغت في نهاية عام 1989 حوالي عشرة مليارات دولار أميركي. وعلى افتراض استثمار تلك المبالغ في ودائع مصرفية
ثابتة، وبعائد سنوي بنسبة تتراوح بين 8 و18%، فإن المبلغ المتراكم في نهاية عام 1990 يصل إلى 31 مليار دولار).
اترك تعليقك