الجماعات التي احتكرت لنفسها الدين الإسلامي ومنح صكوك المغفرة وحق تصاريح الدخول إلى الجنة أو النار, على رأسها جماعة الإخوان المسلمين, وهي الأقدم والأكثر تنظيما, بكل تاريخها الحافل في عالم المؤامرات والتغلغل إلى مختلف الشرائح الاجتماعية والمؤسساتية, عجزت عن منح المجتمع مُبدِعا واحدا.. رغم أن مؤسس الجماعة حسن البنا حاول عبور هذا الباب الراقي عن طريق إنشاء فرقة مسرحية ضمت نخبة من نجوم التمثيل في مصر- دون أن يكون ضمنهم موهبة واحدة تنتمي إلى الإخوان- ذلك أن المنطق يضع كل منهما في طريقين متوازيين يستحيل معه الالتقاء عند نقطة معينة.. شروط السمع والطاعة والإذعان التام و تحريم الجدل التي قام عليها فكر هذه الجماعات جعلها امرأة عاقرا ..عاجزة عن ولادة أي حالة إبداع في مجالات التعبير الثقافي والفني بأشكاله المختلفة سواء تصوير,نحت,أدب,موسيقى,مسرح,سينما,شعر.. فالإبداع يُولد من رحم التمرد والثورة على الثوابت وتعدد الآراء.. من هنا عجزت عقول هذه الجماعات عن استيعاب معنى الخلود الذي يحمي الإرث الحضاري والإبداعي في ضمير تاريخ الأمم, و انصرفت- كعادتها- إلى أساليب القشور في محاولة يائسة لطمس معالم هذا الإرث العظيم.
تميزت حضارة مصر بتاريخ من الإرث الإبداعي والفكري ,مما أوغر حقد الجماعات الإسلامية ضده عبر تاريخهم المُظلم.. الآن و هم يتخبطون بعد خروجهم إلى النور, صوّر لهم الجهل أنهم قادرون على طمس رموز هذا الإرث من ذاكرة التاريخ عن طريق إزالة ما يُشير إليه في شوارع القاهرة و محافظاتها.. بدأت المهزلة عند إزالة صورة الباحثة و الكاتبة درية شفيق- أحد أبرز رائدات حركة تحرير المرأة و يُنسب لها الفضل في حصول المرأة على حق الترشح والانتخاب- من الكُتُب الدراسية لأنها غير مُحجّبة!!! و تمادت الجرائم إلى تغطية وجه تمثال أم كلثوم المقام عند مدخل محافظة المنصورة التي ولدت بهاّ!! وتحطبم تمثال عميد الأدب العربي طه حسين.. كما صوّر لهم الوهم أن محاولة اغتيال المفكر والكاتب عباس محمود العقاد عام 1949 ستمنع أفكاره من التحليق عبر الحدود إلى عقول العالم.
ارمِ نظارتيك.. ما أنت أعمى.. إنما نحن جوقة العميانِ
أيها الأزهري .. يا سارق النار.. و يا كاسِراً حدود الثواني
عُد إلينا..فإن عصرك عصرٌ ذهبي.. و نحن عصرٌ ثاني
كلمات نزار قباني في وصف طه حسين رائد التنوير.. الذي عانى من تاريخ حافل من الصراع مع العقول المتحجرة.. عام 1926 ألّف كتاب"في الشعر الجاهلي" الذي أثار المؤسسات الدينية ضده و طاردوه في المحاكم كي يمنعوا صدور وتداول هذا الكتاب ..طه حسين الذي أطلق صرخته الشهيرة لجعل التعليم كالماء والهواء, ونشر دعوته القائمة على أن حرية التفكير هي أساس التقدم.. والمكتبة العربية تشهد على إبداعات هذا العملاق الذي تحدى العالم ببصيرته حين رد على الجهلة الذين هتفوا أمام مكتبه مطالبين بسقوط "الأعمى" ..قال"الحمد لله الذي خلقني أعمى حتى لا أرى وجوهكم الشائهة".
أم كلثوم.. الفلاحة التي خرجت من كفر "طماي الزهايرة" لتبهر العالم بالطرب الشرقي.. أم كلثوم التي نجحت عبر التاريخ المعاصر في تحقيق ما عجز عنه زعماء و ساسة العالم العربي كله حين وحّد صوتها هذا العالم من المحيط إلى الخليج.. أي شياطين "كارتونية" صورت لهذه العقول المتحجرة أنهم يستطيعون مسحها من الضمير العربي بقطعة قماش يضعونها على وجه تمثال!!! إنهم هم التماثيل , لكنهم لا يُدركون. هذه الواقعة أعادت إلى ذاكرتي قصة رواها لي الكاتب الكبير محفوظ عبد الرحمن وهو يكتب المسلسل الشهير"أم كلثوم".. و كان من المعروف عشق جمال عبد الناصر لصوت أم كلثوم وحرصه على الاستماع لما تبثه الإذاعة المصرية من أغانيها يومياًً .. بعد قيام الثورة تولى الضابط عبد المنعم السباعي مسؤولية مبنى التلفزيون والإذاعة.. بعد مرور أكثر من أسبوع , افتقد عبد الناصر أغاني أم كلثوم, حين اتصل بالسباعي مستفسرا.. أخبره أنه أصدر أمراً بمنع أغاني أم كلثوم لأنها تنتمي إلى العهد البائد!! خرج عبد الناصر عن اتزانه و هدوئه المألوف صارخا "جرى إيه يا عبد المنعم.. انت نسيت أننا كنا كضباط نؤدي التحية العسكرية أمام الملك فاروق.. و نردد النشيد الملكي الذي يتغنى باسمه..يبقى إحنا كمان عهد بائد..إيه الكلام الفارغ ده..أغاني أم كلثوم ترجع حالا".. ظل عبد الناصر يرفض الرد على مكالمات السباعي حتى كتب قصيدة "أروح لمين" تعبيرا عن اعتذاره وقبلت أم كلثوم غناءها. محفوظ عبد الرحمن صاغ في المسلسل هذه الواقعة الحقيقية بشيء من التعديل.
العداء التاريخي للجماعات الإسلامية ضد أم كلثوم وكل رموز التنوير والإبداع النسائية لا يقتصر فقط على الجانب الإبداعي , بل يمتد إلى مواقفهم الظلامية الغريزية من المرأة التي لا يرون فيها سوى جسد أنثى جعلوا على رأس جهادهم المقدس إخفاءها داخل ظلام عقولهم التي تدور في فلك الاشتهاء الغريزي.. لعل أصدق دليل على ما تحتويه هذه العقول المريضة, العمل على منع مشاركة المرأة المصرية في الأحداث السياسية والأنشطة المعارِضة للإخوان ,و ترهيبها عن طريق إرسال مجموعات مدربة كي تقوم بالتحرش واغتصاب النساء في التظاهرات.. و هي الصور و الوقائع التي تناقلتها وكالات الأنباء العالمية من مصر.
* كاتبة عراقية مقيمة في القاهرة
اترك تعليقك