قراءة في ( يوميات المدن ) للطفية الدليمي

قراءة في ( يوميات المدن ) للطفية الدليمي

حين يمر العالم أمامنا بمدنه و ناسه وعمرانه وشوارعه و أسواقه ، نتذكر رحالتنا  السعيد

المرأة  هي المستقبل   -   إشبنغلر

المرأة مستقبل العالم ، وأنت مستقبلي -  أراغون

 

ابن بطوطة ، وهو يطوف و يتعايش و يسجل و يدون يومياته بقلم الزائر الهادئ الذي حـلّ ضيفا مكرما في العديد من المدن، فلم تستشعر خطاه التيه ، و لم تفترس روحه الغربة و لكن  ان يردّكَ رصيف الى رصيف و تتعثر روحك بين الأجساد و الملامح و النظرات ، فهذا يعني انك لا تنتمي الى المكان و لا الزمان و لا اللون و لا الرائحة. لست سوى غريب والتغرب او اللجوء او  المهجر ، مجاورة لسمات العدم ، لأنه يعني ( المسافة بين كينونة ناجزة مهددة و صيرورة مستحيلة ، وهو حالة من ضياع القصد و الدوران في حلقة مفرغة من ضلال الخطى ) ،  والغريب ، كما عبر عن حالته شاعر  قديم مجهول:

اِن الغريبَ لهُ استكانةُ مُذنبٍ

و خضوعُ مديونٍ و ذلُّ غريبِ

فإذا تكلّمَ في المجالسِ مُبرمٌ

وإذا أصاب ، يُقالُ غير مصيبِ

وقد يحتمي الغريب وهو يتفشى في غُربته ، بلغته ( كقميص مضاد للضلال ) اما اللغــة

الأخرى ، فستكون شبه فندقٍ يقيمُ فيه الغريبُ مؤقتا ، بعدَ ان غادرَ وطنا ، بدا هو الآخر ضيقا بمساحة و مضمون فندقٍ انتهت صلاحيةُ إقامتنا فيه..

و وسط مدينة كباريس بجمالها و أنوارها ومعمارها و حدائقها تتحصنُ الغريبة (الكاتبة ) بما اختزنته في ذاكرتها و روحها عن هذه المدينة ، بخاصة فنونها و آدابها و تاريخــــــها لتكون بمثابة الظل الحاني والصديق  الذي اشار اليه محمود درويش - ظل الغريب علـى الغريب عباءةٌ .. و في باريس لابد ان يحضر أوسم فتيانها الشاعر و ( النخاس و مهـــــــرب الأرواح ) لاحقا ، آرثر رامبو  بسحر شعره و عبقه و تاريخ حياته اثر زيارة الكاتبة  لمدينة شارلفيل   فهناك   بيته ومتحفه والحي الذي نشأ فيه  وسيكون لرامبو هنا  دفء الظل   و حنو الرفيق ، رفيق التغرب والتشرد ، حين قادته حياته الغريبة الى مجاهل إثيوبيا و عـــــدن وفي كل هذا  يحضر العراق  في كل زاوية او شارع او التفاتة في  باريس ، انها باريــــــس  عراقيا!!  والمدن في ( يومياتها ) لا تجري وفق يوميات  المدن ذاتها  بل وفق يوميات الغريبة وطقسها الداخلي ، و أزمنتها لا تحضر  بتوقيتاتها هي ، بل بتوقيت عراقي(وحدي احمل وطنا زائلا ، وحولي المدن ، ارشف الشاي وأراك تنبثق من العبير الساخن ، وحين أحيطك بذراعيّ، لا امسك سوى  الهواء ، أعدو في مياهك (العراق) لا شيء  سوى  أصداء من طوفان التكايا ، وفقهاء يتداولون جدل التطهر من قطرة دم او لمسة أنثى قبيل الركوع و سادة الموت بعمائم بيض و سود وقبعات ، يرددون أهازيج القتل برمّانات وسيوف و فتاوى..) و الملاحظ في  سرديات    لطفية الدليمي، كما هو في روايتها ( سيدات زحل) وأعمالها  الأخرى ان الزمن لديها سائل تتحرك على سطحه عبورا الى الماضي  او تغوص في نقطة مـــــا فيه مستعيرة مقطعا تاريخيا  او حكائيا أو أسطوريا  لتسليط الضوء على قضية او فكرة تود لفت الانتباه اليها او تبنيها حتى ، دون التصريح  بجمل جاهزة او جازمة فيما يخص المكان أيضا ، تختار الكاتبة  مقطعا او ( خلية ) من المدينة تشكل مركــــــز النبض او التوتر فيها، بما يؤمن إيصال المكان الى القارئ بأجوائه و طقوسه و روائــــــحه كما ان الثيمات التي تعالجها الكاتبة، لا تكرس لها فصلا في الكتاب خاصا بها ، بــــــل ان الكشف عنها او الحديث عنها ، نستخلصه من مجمل الكتاب، فالحديث عن بغداد المـوت و القتل و الهتك والحرائق و الدمار ، نراه مبثوثا في فصول متفرقة من الكتاب ،  وهي حين تقابل بين المدينة كمقطع حي في الزمن، وبين المتحف كمحتوى تجمد فيه الزمن ، فهي تفعل ذلك من اجل فضح التاريخ وهو ساكن  محنط في متحف او تفعل ذلك  لفضح تاريخ المدينة  بينما  دخان الحرائق ينبعث من ابنيتها و الدماء تسيل في شوارعها ، والمتحف التاريخي غير محايد ، فهو يعرض الاميرات والملوك  و ابّهتهم و حليهم و ذهبهم ، و لكنه لا يعرض رعب الرجال والنساء من وصاف الملكة الذين دفنوا أحياء ، و لا يعرض صيحات الحلاج و أنين السهروردي و هلع ابن المقفع ، واذا أنصف المتحف يوما وفعل ذلك ، فأين سيضع مــــن دفنهم صدام في مقابره الجماعية !؟

وفي حديثها عن عبادة الناس  للتاريخ، تشير الى نوع من النوستالجيا (المريضة) :

(اَن يكون لشعب ما تاريخ  طويل  تهاوى اثر هزائم او انتكاسات ، فذلك يعني وجود جرح عميق  يدفع به الى الإنغماس في  توهمات  طفولية و هوس مرضي في عشق الماضي الذي يوفر  له ملاذا من عدم توائمه مع  الحاضر و عجزه عن تمثله )،وتذكرنا هنا بمقولة  لمونتســـــكيو كضد نوعي -الشعوب السعيدة لا تاريخ لها -فهي شعوب تحيا الزمن فـــي مدى الراهن ،و ترنو الى وعد الغد ، و لا تلتفت قط الى  الوراء و يبقى التاريخ جثة مبهرجة ببريق الذهب و الأكاذيب ، فيما يختض  جسد الفن بالرؤى)و الرغبات و تجليات الجمال ) تدون الكاتبة هذا  وهي تتحدث عن نوع من المتاحــف لا يحفل بالزيف و تلفيقات  التاريخ و المؤرخين  فتطوف بنا في  متاحف الفنون التشكيلية   التي تعرض إبداع الرسامين ، وما أسبغوه على العالم من جمال ، ومنهم الرسام السويسري  هودلر في متحف زيورخ ، الذي أبدع في تصوير جمال المرأة وبذخ جسدها  فالاحتفاء  بالمرأة

احتفاء بالحياة ذاتها، والفن كما قال نيتشه - يتشهى الحياة  والحياة  امرأة  و المستقبل امرأة ، او كما قال الفيلسوف اشبنغلر؛ ( المرأة هي المستقبل ) ، وهذا يحيلنا  إلى مقولة اراغون؛ المرأة مستقبل العالم  ... و أنت مستقبلي و تبقى قضية المرأة  قضية محورية في معظم  أعمال   لطفيــــــــــة الدليـــــــــــــــمي فهي حتى حين تتحدث عن أساطير وادي الرافدين على سبيل المثال ،نجدها  تناقـــــــــش الأسطورة وكيف تناولت موضوعة المرأة من وجهة نظر المهيمن ، وتكشف لنا في أسطورة ( إينوما إيليش ....حينما في الأعالي )  كيف تآمر  كاتب  الأسطورة  و الآلهة  على الملكة   الأم  تيامات سيدة المياه المالحة، و قاموا بقتلها ، في إشارة الى إنهاء العصر الأمومي او عصر المرأة وحين  تحدثنا  عن ملحمة زيوسيدرا ؛ المــــلاح التائه ، فهي تربطه ربطا إبداعيا لافتا ، بما جرى و يجري في العراق الآن ، حين تقول؛ (دعوا السفينة تغرق، قالوا ذلك شرط التراجيديا ، دعوا الطوفان يطغى ، ذلك شــــرط ظهور المنقذ وقيامته من غيبته ، لماذا لم يتلق زيوسيدرا التائه فوق غمر الماء علامة السماء !؟ هل كانت الرؤيا خديعة و الحلم فخا !؟ ماذا صحب الملاح في الفلك المنكود!؟ أذكورا مخصيين ام نساء عواقر !؟ أم مسوخا ستسود الأرض بحد السيف !؟أم حمل ضــــــراوة الناس ، فتوالد منها رجال الكهوف براياتهم و سيوفهم و طواطم قبائلهم !؟ بماذا بنـــــى الملاح سفينة الهلاك ؟ بالدموع ام بعجينة النفط و طحين الأجساد !؟ ام من زنبق  و سوسن و لبلاب!؟ وحده صبي عابق باللقاح أدرك ساخرا ، ان الفلك أكذوبة من صنع يأسنا..ترى مَن لقّن الفتى حكمة ان لا يؤمن بحكمة أبدا !؟)

وفي الكتاب  يحضر مصطلح الأنتروبيا  الذي جرى تعريفه من قبل عظيموف على انه الحصيلة الكونية من الطاقة المتبددة عشوائيا وغير القابلة للاستغلال  و الاسترجاع  و بإمكاننا  هنا ان نخمن مقدار الطاقة المهدورة  عراقيا ، باعتبارنا جزءا من هذا الكون في عراق الهتك و الإبادة والفتك والحروب  وتقترح  علينا  الكاتبة ان يكون  ( الحب ) مضـــــــــادا .أساسيا للإنتروبيا  والتبدد  الحتمي .. حين  تتناول الكاتبة موضوعة  ( الوهم )  فتراه  علاجا  ضد الخواء و العدم الناتج عن الحروب او الفشل الشخصي ايضا،  فالفنان  كما تلمح  الكاتبة  يحتمي بنوع خاص من الوهم ، الوهم الجميل مقابل قبح الواقع و سلطته الفاتكة. اذا عدنا الى اليوميات الأقسى  ، يوميات بغداد ، فإن الكاتبة تطرح  سؤالا مشوبــــــا

بالمرارة والألم ، وهي تستذكر الموت والخراب في بغداد ما بعد منتصف العقد السابـــــق فتستحضر ذهنية البرابرة الجدد من السلفيين ، الذين قدموا من عصور الخرافة ، ومجلدات العفن ، وفتاوى الدم  :) لماذا لا تقبل بوجودي في الحياة ، كما انا ، بينما اقبل بوجودك كما أنت ؟)  _

وفي ختام قراءتنا  لكتاب المدن ويومياتها ، لابد من الإشارة الى اللغة الثرية والضـــخ

الشعري العالي ، هذه اللغة الفذه التي ابدعت  الكاتبة  في شحنها بأقصى حمولة ممكنة من الاتقاد الشعري والفكري.

ولا بأس ان نورد أخيرا صرخة مقاتلة من امرأة قررت خوض حرب وجودها حتى النهاية ، حرب دفاعها عن كينونتها كأنثى و امرأة وإنسانة ، يؤدي الحجر عليها في بيتها الى ظهور جيـــل دموي قامع و مقموع  في بلد أصبحت الحياة تُتداول فيه افتراضيا، بعد كل هذا المــــوت والموات؛ (انا امرأة تجازف في كل برهة و تراوغ موتها . أتجول بين  ظلال الوحوش البشرية التي ترفــــع  سيوفها الصدئة ، تجز بها رقاب الخارجين على الخرافة  و الذاهبين الى سلطة العقل ، امضــــي .قدما في مجازفاتي الخطرة)

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top