تحتل مؤسسة الأزهر مكانة عزيزة لدى المصريين جميعا: مسلمين ومسيحيين، فضلا عن مكانتها التاريخية في العالم الإسلامي امتناناً لدورها في محاربة الاستعمار.
ومع ذلك سوف يندم الذين يستدعون الأزهر كمؤسسة دينية لا لمجرد إبداء الرأي في بعض القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية وإنما أيضا إلى اتخاذ القرار النهائي فيها كما هو الحال في موضوع الصكوك، وسيكون مصدر الندم هو نجاح الإخوان المسلمين في لعبتهم الماهرة التي خصصت للأزهر مادتين في الدستور هما المادة 4 والمادة 219، وتكرس المادتان لسلطة دينية، بينما هم أي الإخوان يواصلون سعيهم للهيمنة على الأزهر ليؤكدوا الشرعية الدينية لسلطتهم، وإذا ما نجحت لعبتهم، وهناك مؤشرات كثيرة لإمكانية هذا النجاح سوف تتراجع وسطية الأزهر وميول الاعتدال فيه، ويصبح متحدثا دينيا باسم الإخوان وأداة لهم.
وبذلك تكون القوى المدنية التي ساهمت في استدعاء المؤسسة الدينية إلى ساحة السياسة ولم تسلك بالحزم الضروري في قضايا الصراع الفكري قد وقعت في الفخ، وسيكون عليها في هذه المرحلة أن تنطلق في كفاحها من أجل الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة من الأرضية الدينية نفسها، وتصارع في معركة التأويل بدلا من اتجاهها الأصلي للفصل الكامل بين الدين والسياسة، وسوف تدفع القوى المدنية في ذلك الحين الثمن المؤجل منذ قرون لتهاونها أبا عن جد في حسم معركة الإصلاح الديني، ومساومتها على نشر الأفكار والتوجهات العلمانية الديمقراطية العقلانية التي سبق أن تبلورت كشعار جامع في الثورة الوطنية الكبرى عام 1919 حين أطلقت الدين لله والوطن للجميع، ودفعت إلى مقدمة المشهد بمجموعة من المفكرين والكتاب والمناضلين الديمقراطيين الذين صعدوا على أكتاف المد الشعبي التقدمي في الثورات والانتفاضات المتعاقبة.
ولكن هذه الأصوات خفتت وتراجعت مع فشل الرأسمالية المصرية في إنجاز مهماتها، ثم سقوطها السريع في براثن التبعية والطفيلية والفساد، وفشلها في حماية استقلال البلاد، بل وانغماس قطاعات واسعة منها في المشروع العالمي لتجديد الرأسمالية باسم الدين، إذ أن الرأسمالية العالمية في أزمتها الكبرى الممتدة أخذت تؤجج النزعات الدينية والطائفية في مواجهة النهوض الشعبي التقدمي ومن أعطافها هي ذاتها وعبر أزماتها المختلفة نشأت أكثر الحركات الدينية تطرفا من تنظيم القاعدة إلى المحافظين الجدد، ومن الصهيونية إلى النازية، ومن قبل هذه الأزمات نشأت حركات التعصب والتطرف في كل الديانات بما فيها البوذية والهندوسية.
وحتى لا نظلم المفكرين الأفراد أو حتى المؤسسات المدنية أو نحملهم وحدهم مسؤولية انحراف المسار في اتجاه العمل على أرضية الخصم حتى لو كان هذا الطرف الآخر معتدلا أو وسطيا كما هو حال الأزهر، فلابد أن نسجل أن الاتجاه إلى اليمين واستخدام الدين في مواجهة التقدم الاجتماعي والديمقراطية وتحرير المرأة هو منحى عالمي ساندته مؤسسات الفكر والإعلام الكبرى الخادمة للرأسمالية المأزومة ولمشروعها المعادي للعقلانية والاستنارة والعدالة، وأكبر دليل على ذلك مساندة السياسة الأمريكية لحكم الإخوان في مصر ودعمها المعلن والمستتر للقوى الدينية في الثورة السورية.
ونحن نعرف في حالتنا المصرية أن مؤسسة الأزهر التي تقف الآن ضد وثيقة الأمم المتحدة حول القضاء على كل أشكال العنف ضد المرأة قد سبق لها أن ساندت تحفظات الحكومة المصرية على الاتفاقية الدولية لإلغاء كل أشكال التمييز ضد النساء خاصة المادة الثانية التي تعتبر مبدأ المساواة مبدأ ملزما.
ومن جهة أخرى هناك شواهد ووقائع كثيرة تؤكد انحياز المؤسسة الدينية للنظام الحاكم وتوجهاته واختيارا لتأويل الذي يخدم هذه التوجهات في النصوص الدينية، وحين كان شعار «جمال عبد الناصر» بعد هزيمة 1967 هو لا صلح ولا مفاوضة ولا اعتراف بإسرائيل سانده الأزهر، وحين قام «السادات» بزيارة القدس المحتلة بعد ذلك بعشر سنوات ومنتهجا سياسة مناقضة سانده الأزهر أيضا، وحين قرر نظام «مبارك» العبث بقانون الإصلاح الزراعي لصالح كبار الملاك وعلى حساب الصغار والأجراء سانده الأزهر.
هل تعني هذه الحقائق كلها أن تمتنع القوى المدنية الديمقراطية عن دعم ومساندة الاتجاهات العقلانية المستنيرة في المؤسسة الدينية.. كلا وألف كلا، لابد من مساندة هذه الاتجاهات ودعمها بكل قوة دون أن يعني ذلك أبدا الإقرار بأن العمل السياسي والنضالي لا يجوز له أن يتجاوز هذه الأرضية الدينية بل من الضروري أن نؤكد مرارا وتكرارا أن الفكرة العلمانية التي لا تعادي الدين هي فكرة متماسكة بذاتها وهي الأداة المستقبلية لتأكيد وتطوير مفاهيم المواطنة التي تنهض على أن هناك منابع للقيم والأخلاق والأفكار والرشاد تتجاوز الدين الذي هو أحد هذه المنابع ولا يجوز الاقتصار عليه وحده.. هناك حاجة ماسة إذن لعدم استدعاء الأزهر للسياسة حتى لو كان الدستور يمنحه هذا الحق وحتى لو ازدادت وعورة الطريق الذي تسلكه القوى المدنية العلمانية الديمقراطية في هذا البحر الهائج والمتلاطم الأمواج.
اترك تعليقك