بصريو البصرة :إلى ناصر الحجاج

طالب عبد العزيز 2013/04/15 09:01:00 م

بصريو البصرة   :إلى ناصر الحجاج

 
يجري اليوم استخدام السلاح في معظم الخصومات التي تحدث بين العشائر في البصرة، بموازاة أزمات اجتماعية تعكر صفو الأهالي. والأمر يطرح تساؤلات حول طيبة المدينة وروحها المسالمة التي عرفت بها. ولكن لو عدنا إلى سنوات ما قبل النفط وشركة ppc، قبل تأسيس مصلحة الموانئ العراقية، وقبل الحرب مع إيران حتى، بل قبل خريف العام 2003، لوجدناها بصرة مختلفة عن اليوم.
فتركيبة السكان فيها منضبطة ولا تعاني من أزمات اجتماعية، بل أن تركيبتها الطائفية (السنة والشيعة) متوازنة إلى حد كبير، وهي أنظف وأجمل بكثير (هناك عناية خاصة بحديقة المنزل). والبصرة غير مزدحمة وتخلو من التلوث بنسب كبيرة، وهي أكثر مدنية من أي مدينة عراقية أخرى، بعد أن فقدت طابعها العشائري لصالح المدنية والقانون. وهناك فصل كبير بين المدينة والريف، بل أن ريفها الذي لا يبعد عن مركزها كثيرا، هو متطور أيضاً (بنيت مدرسة المحمودية في أبي الخصيب عام 1913) وواقعها الثقافي-الفني-الرياضي أكثر من أن يشار له في ورقة صغيرة كهذه. كان هناك مجتمع مخملي يحترم المرأة، ويقدس الصداقة، ونبل ولطف وعفو وتسامح وجيرة لا نجد مثيلا لها اليوم.
يقول صديقي البصري الخصيبيّ المتسامح جدا: "الحروب والحصار والأزمات انعكست سلباً على طبيعة السكان". فأقول له: نعم هذا صحيح، لكني حين ذكّرته بالذين هبّوا لنهب المؤسسات الحكومة، بما فيها المصارف والمدارس والمستشفيات ودوائر الكهرباء وغيرها والذين قاموا بتسليب السيارات وقتل الأبرياء عقب سقوط النظام وبعده، قلت له: أتعرفهم؟ هل هم من سكان قريتك؟ وهل ذهب أحدٌ من أقربائك معهم؟ فيرد:لا. قلت:لماذا لم يذهبوا؟ فيقول: ربما منعهم حياؤهم، آباؤهم، دينهم، رجلٌ عاقل بينهم. ثم يسألني: ترى من فعل ذلك كله؟ ولماذا لم يردعه رادع؟ فأرد: الله ورسوله والحكومة والعشائر والناس جميعاً أعلم بهم، ومن هم ومن أين جاءوا؟
قبل ليليتين سمع صديقي صوت إطلاق نار في قريتهم، التي كانت وادعة قبل نحو من 10 سنوات، وتقع على ضفة شط العرب. سمع بنادق رشاشة ومسدسات، ومن ثم تعالى صراخ، وسمع صوت سيارة الشرطة، ومن ثم شاهد دخول سيارات الجيش الذي طوق المنطقة، وبعد أسبوع نصبت إحدى العشائر خيمة (جادر) وقطع رجال ملثمون الطريق الضيقة المؤدية لمنزلهم، وفي المخيم اجتمع العشرات من الرجال الميشمغين، المعقَّلين، كل يُقسم بأن صاحبه كان المسالم الفقير المسكين، ثم سمع بأنهم شدوا راية العباس، وهي عصا خيزران تربط على يشماغ أحدهم، تنص على أن لا يعتدي أحدٌ على أحدٍ، رايات كثيرة شُدّت بعدها، لكن إطلاق النار لم يتوقف، فسرعان ما عاود هؤلاء حمل بنادقهم وأفزعوا سكان القرية الوادعة على ضفة شط العرب. تلك التي كان أكبر شجار فيها لا يتجاوز الضرب بالنعال، نعم النعال الزبيري الخرازة، الملون، أبو إصبع. فلا بنادق رشاشة ولا مسدسات. وفي صباح اليوم الثاني يعتذر هذا من هذا، وينتهي كل شيء.
كان البصري في القرية يترك باب داره مفتوحا في الليل، فلا تدخل منها سوى الكلاب والقطط، وتدخلها في النهار الأبقار ونسيمات باردة في الصيف وحبات مطر في الشتاء، لكنه اليوم يغلقها ويحكِّم أقفالها في الليل والنهار. وكانت أسيجة بيوت البصريين من خشب مقرنص، وواطئة في المدينة، هي ليست ضد اللصوص أبدا، إنما ليتسلقها الورد الجهنمي والياسمين أو ليطل منها الجلنار، فصارت اليوم أعلى ثم أعلى، لأنها لم تعد أسيجة، صارت كتلا إسمنتية مغبرة.
وكانت مراكز الشرطة معطلة طوال الأسبوع، لا يقف عند أبوابها أحد، اللهم لقضية عابرة، بينما صارت تحتشد بالكثيرين من الغرباء.
ومنذ أول تأسيس للدولة العراقية يستهجن البصري الانتساب لسلك الشرطة، يرى فيه نقيصة لشخصه، لا لشيء فيها، إنما يعتقد بان مهنة كهذه تجلب لصاحبها فقدان ماء الوجه ونضارة المحيا، لكنه كان لا يأنف من أن يكون جنديا في الجيش، موظفا فلاحا. فهو معروف بطبعه المرح، محب للطرب ودود لا يضيره من أمسه إلا ما تكالب عليه سواه. وهو اليوم غير ذلك تماما، فقد ذهب يبحث عن عشيرة يتقوى بها، ودخل حزبا يعصمه من تطاول الآخرين. اشترى بندقية ، أشياء أخرى راح يصنعها سرّا ، وهكذا ظل يفقد سعاداته تباعا .
  لا يسمّي صديقي أحداً من الذين غيروا طبيعة الحياة في المدينة التي كانت حلما ، ولم أسمعه يذكر عشيرة بعينها، لكنه ظل يقول بأن البصرة لم تعد مدينة متسامحة، لم تعد مدينة للنخيل والطيبة والعذوبة والود والصفاء. هناك أناس غيروا من طبيعة المدينة الحضرية، وفرضوا عليها أعرافهم وطبائعهم التي ليست من طبائع البصريين. هناك منطق غريب لحسم الأشياء.
وهو يبحث عن حل، ويواصل: في النجف سنّت الحكومة المحلية قانوناً لا يقبل بسكنى وتملك وتسلم أمر كبير،  لغير النجفيين فيها. وفي الكوت يشترط مجلسهم عدم الترشيح لعضوية المجلس إلا لمن كان من أبوين ولدا في الكوت. وفي كربلاء مسعى يؤكد مصالح الكربلائيين ، وفي كل مكان من العالم هناك قوانين للهجرة تحدد طبيعة الإقامة والسفر والسكنى الدائمة بما فيها التمليك والحصول على البطاقة الشخصية وغيرها. وذلك من أجل الحفاظ على ديموغرافية السكان وطبوغرافية المدن، ومراعاة لحاجات الناس في الأرض والماء والخدمات والتعليم والصحة.. وهذا منطق حكيم، لا يقصد منه التضييق على أحد، ولا النيل من شخصيته، بل من أجل حماية سكان المدينة الأصليين، والحفاظ على هوية المدينة، أي مدينة. فبغداد بأهلها البغادلة، والبصرة بأهلها البصاروه، والموصل بأهلها المصالوه، والرمادي بأهلها الدليم، والعمارة بأهل العمارة.

تعليقات الزوار

  • د. ضياء الثامري

    الأستاذ الشاعر طالب عبد العزيز إنك تقول ما يقوله البصريون ( أهل البصرة ألأصليين) ،الذين أصبحوا مثل الهنود الحمر في أمريكا، البصرة اليوم مستباحة بتقاليد دخيلة ، ومستباحة من قبل أناس إنتشروا في جسدها إنتشاراً سرطانياً، فرضوا عليها ما حملوه من أماكنهم التي ج

  • سبيل الخير محمود

    في كل مرة يتم الحديث فيها عن البصرة أخال وكأنَّ المتحديثن يصفون وجه أمي !! لا يسعني أن أسمع عبارة فيها ذكر للبصرة دون أن يستيقظ المارد في مخيلتي، يقذفني وسط السدر والبمبر والخرِّط، في أنهار شط العرب الصغير حيث كنا نتسلق النخيل ثم نطوِّح بسعفاته أنفسنا

  • Mohamed

    I am an Iraqi, from Basrah, living out sideIraq for more than 35 years,Iam very against this kind of thinking its kind of APARTAID ,WE are in this time must fihgt against such kind of thinking.The warld is a Little Town all the people what ever their colo

  • رياض العلي

    ياحريمة انباكت الجلمات من فوك الشفايف يا طالب

  • عبدالله الفهد

    هذاالهم يحمله البصريون الاصلاء وهو يبعث على التفائل لاننا وجدنا من يكتب في ذلك وهناك من يقرا وربما في السياسيين من يحمل ذلك تلهم .. اذن نحن بخير يا ناصر الحجاج ويا طالب عبدالعزيز علينا ان نمضي بهذا النهج ولو لوحدنا لان البصرة تستحق الموقف ...وسيأتي اليوم

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top