كنت هناك في بغداد!

علاء المفرجي 2013/05/01 09:01:00 م

كنت هناك في بغداد!

في الطائرة من بوينس آيرس الى روما، يكتب عرفان رشيد شهادته عن زمن عاشه. وثيقة يسجلها بصوته تؤرخ لجانب من حياته، اعتمدت تسجيل وقائع وتفاصيل لوطن أضحى نهباً للاستبداد والعنف، ومصادرة الحريات على مدى أكثر من ثلاثة عقود من تاريخه..
في فيلمه الوثائقي "كنت هناك في بغداد"، الذي عرض في الدورة الأخيرة لمهرجان الخليج السينمائي، يعتمد عرفان رشيد على تجربته الذاتية في استعراض حدث عام، كان له أثر في صياغة مصير وطن و حيوات، كان رشيد احدها.. فهو في فيلمه يخضع الى الذاتي، ليكون هو زاوية النظر التي يرى بها المشاهد فيلمه ولكن من دون تعسف، بل على العكس فكأنه يترجم إحساس الكثير من أبناء جلدته ونظرتهم لما حدث في العقود الأربعة الماضية في العراق.
يقدم عرفان رشيد فيلمه بعبارة قالها له قبل أكثر من ربع قرن الشاعر الاسباني الكبير رافائيل البرتي عن المنفى: " في لحظة ما من حياتك يتحول المنفى الى وحش دموي يحاول اقتلاع جذورك من داخلك، بمقدورك الصمود إذا ما اقتنعت حقاً أنك لا تزال هناك في وطنك".
وبحسب ذلك فان المخرج يحاول أن يتطهر من عبء المنفى ومعاناته. عبر هذه الشهادة التي يسجلها فيما بعد بصوته، وباللهجة العراقية الدارجة لإضفاء حميمية وصدقيه أكبر، أن يقتنع إنه حقاً مازال في وطنه، كما يرى البرتي فعندما يجتر ذكرياته، إنما هو يقاوم غربته، ذلك إن الذكريات هي الشيء الوحيد الذي يطمئن إليه الإنسان في الغربة..
يختار عرفان رشيد لحظة تاريخيه واجه بها اليسار في بلدان العالم الثالث خلال ستينات وسبعينات القرن المنصرم مخططات الـ (سي آي أي) و عن طريق جزمات العسكر في إجهاض تجارب وليدة ، ومشاريع جديدة لقيادة هذه البلدان. ويقارب المخرج ما حدث في تشيلي عام 1973 عندما أطاح انقلاب يبنوشيت الأمريكي بامتياز بحكومة سلفادور الليندي اليسارية المنتخبة وكذلك ما حدث في الأرجنتين بداية الستينات عندما أطيح  بأورتورو إيليا بعد ثلاثة أعوام على انتخابه من قبل شعبه.
نتائج هذه المواجهة غير المتكافئة دفع ثمنها الشعب قتلاً وتشريداً واستباحة لحرياته.. ومن خلال مادة وثائقية منتقاة بمهارة ، يقارب رشيد الأحداث في هذه البلدان الثلاثة، والأثر الذي أحدثته..
وللتأكيد على امتزاج الذاتي بالعام، فان المخرج يستهل فيلمه بعرض صور فوتوغرافية لطفولته، يوم كان ينعم هو و بلده بالاستقرار ثم سرعان ما ينتقل الى التطور المأساوي للأحداث.. وعلى خلفية الاستعراض الوثائقي لأحداث بلده العراق بالمقاربة مع أحداث تشيلي والأرجنتين يتوقف عند (إبراهيم) جاره في المكان الذي كان يعيش بوصفه نموذجاً للقمع والعنف الذي مورس بحق أبناء شعبه، وهو الشاب الذي غيبه الفاشست مثلاً، بينما تتلقى أمه صوراً له كونه مازال حياً .والصورة لا تختلف كثيراً عن الأمهات التشيليات وهن يحيين ذكرى أبنائهن في ساحة مايو الذين قضوا على يد فاشية بينوشيه.
ولعل أهم ما في الفيلم التوظيف الذكي للمادة الوثائقية في اغناء فكرة الفيلم..خاصة فيما يتعلق منها أحداث 1963 في العراق، والتي يعرض البعض منها لأول مرة، على الرغم من جسامة الحدث في تلك الفترة.
وفي لفتة ذكية للمخرج، فانه باستعراضه للأحداث في تشيلي والأرجنتين يتوقف الى إن مأساوية الأحداث في هذين البلدين كانت بمثابة المخاض العسير الذي تطلب ثمناًً باهظاً في حياة الشعبين، إلا انه أفضى الى حقبة استفادت جيداً من دروس الماضي، خاصة وهو يستعرض بلقطات وثائقية فرحة الشعب التشيلي الغامرة بإنقاذ حياة عمال المناجم ، وكذلك حلقة الفرح التي يقيمها شباب الجامعة في إحدى ساحات بوينس ايرس وهم يستذكرون أحداث الماضي الأليم، وهو عكس ما يحصل بالعراق، من عدم هضم الدرس جيداً، الأمر الذي جعل البرانويا السياسية تتحكم من خلال التربص والنيل من الآخر في العلاقة بين الجلاد والضحية، خاصة عندما تمثل الضحية خواص جلادها ووظيفته.
"كنت هناك في بغداد".. مشهدية بصرية وصوتية، تأتي من زاوية نظر اكتوت بنيران الحروب والانقلابات التي عصفت بالعراق.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top