في تذكر الشيخ سياتل

طالب عبد العزيز 2013/06/11 10:01:00 م

في تذكر الشيخ سياتل

تذكرت البصرة ، المدينة القديمة، أبا الخصيب.. بتأريخها وحاضرها وما آلت اليه اليوم وأنا أقرأ ما نشره صديق عزيز في إحدى مقالاته من كلمات لآخر زعماء الهنود الحمر الشيخ سياتل، والتي بعث بها للرئيس الأمريكي آنذاك.
تذكرتها وأنا اجوب القرى والأديرة والداربين بحثا عن قنينة (ماي لكاح) ولأن كثيرين في البصرة اليوم وفي العراق أيضا لا يعرفون معنى الكلمتين بين الحاصرتين أقول هو ماء لقاح، كان يصنع من الغلاف الذي يحيط بالعذوق قبل جفافه بطريقة التقطير في كل بساتين أبي الخصيب تقريبا، وله طعم فريد ورائحة لا تشبهها كل عطورات سان ديور بفرنسا العظمى.
بحثت عن ضالتي الأثيرة هذه ولم أجدها إلا رخيصة ، مهجورة، لا يقربها. أحد لكنها بلا رائحة ، وقد أعياني البحث عنها في القرى الكثيرة المتناثرة على شط العرب الذي بدا لي غريبا ، لكني تذكرت أيضا بائع ماي اللكاح والسبع مايات وماء الورد وماء النعناع، الرجل القصير من أهالي قرية حمدان المعاريف. تذكرت يشماغه الأحمر المنقش بالورود وهو يجوب القرى والأديرة على دراجته الروج، صائحاً بصوت هو اقرب لأصوات الضائعين، الفاقدين الحزانى، مناديا على بضاعته التي غالبا ما تبور، إذ من يشتري ماء اللكاح هذا الذي يصنعه كل بيت، وتضوع رائحته في الطرقات الضيقة، تفوح مع رائحة القطر والأرغفة الحارة والندى والمطر.
ولأن لا أحد من الذين اتحدث اليهم اليوم تعنيه كلماتي هذه، بعد أن ذهب الذين أحبهم وصارت القرى والأديرة منازل ودكاكين وساحات، كان عليَّ أن اتذكر دكان صالح الحداد، عطارية زاير معتوق، بيت عبدالله الشاروح، بستان الحاج أحمد الورد الذي على الطريق بين عويسيان والبرهامة.. والعشرات من الذين شقوا الأرض وجعلوا الفرح غالبا على الموت والنسيان. فتذكرت وتذكرت وسألت: لماذا تختفي معالم الناس الذين أحبهم، لماذا لا أستعيد وجوههم الساعة هذه، ولماذا تضيع الحجج الشرعية الكثيرة التي أوقف بموجبها اهل الخير والمحسنون أملاكهم لدائرة الطابو العثمانية في ما ينفع العباد والبلاد والتي آلت الآن للمتجاوزين وفاقدي الضمير من عديمي المعرفة بالحاجة للنخل والعنب والورد والظلال، من الذين يرون في النخلة عائقا أمام بلادتهم؟
لم يكن الشيخ سياتل حزينا لما حل ببلاده لكنه كان حزينا على الأرض التي كانت تضم رفات اهله، كان حزينا على السماء التي كانت تتطوح بأشجارهم، وعلى الماء الذي مخرته قوارب قومه . اليوم انا حزين كظيم، مقهور على ما ضاع من حاجات أهلي، أهلي الذين عطروا الفضاءات بماء اللكاح والورد والسبع مايات وماي النعناع ، أهلي الذين أكلت الدنيا من تمر بساتينهم، الذين سيروا السفن محملة بالرطب والجني الكثير ، وهم الذين لم يربّ الناس بلبلا إلا وكان منشدا بين سعفهم، ولا يستعذب أحدٌ الماء إلا ما كان عابرا من جداولهم.
ولمن لم ير الجنة من قبل كان عليه أن يدخل بستانا على نهر ينزع من شط العرب ماء مدّه، ويتمدد ساعة الهاجرة على حصيرة الخوص التي ظفرتها اكفُّ أمي، امك، أي أم خصيبية . يا أخي الذي تحول بيني وبينك معرفة الأشياء تلك. اليوم أجد أن رسائل كثيرة وبيانات عظمى علينا ان نكتبها نحن اهل ابي الخصيب للحكومة، لكل من له درجة في سلم السلطة هنا وهناك ، رسائل نقول بها إن ما نتعرض له لا يقل شأنا عما تعرض له قوم الحكيم، الشيخ سياتل . نحن نتعرض لإبادة من نوع آخر لا يقل عن أي إبادة ، لقد ضاعت دشاديش أهلينا البيض بين سراويل الوافدين ، وفقدت مناجلهم التي كانت أهلة، تمزقت يشامغهم الحمر المنقشة بالورد، هدَّ الغرباء الوافدون اكواخهم وذهبت مع الريح حناجرهم التي كانت تغني النخل والماء والظلال .
قد لا يشكل ذلك للناس شيئا لكنه لنا كل شيء، وقد لا تعني إزاحة مقبرة للأطفال قرب مسجد في قرية الكريّة، السادة الرفاعية، للآخرين مأتماً كبيراً لكنها لنا أكثر من مقبرة صغيرة، أكبر من فقد لقبر، ومثلها مقام السيد الغريب ونهر باب الهوى وقبة الشيخ محمد ابو الجوزي في عبد الليان وجسر حبّابة وضريح سيد معمّر في محيلة الصكراوة، والعشرات من الأماكن التي ما كان لأبي الخصيب أن يكون بدونها، وبدون دراجة بائع "ماي اللكاح" ومسحاة عبد الكريم شويرد.
ترى كيف يصحو الناس باكرين إن لم تنبثق الشمس عن فجر خضل عطر، ذائب ترفا وبهجة، كيف تغرب على بساتين مهجورة، لا فواخت فيها؟
أيها العم سياتل نحن ايضا ضحايا حروب انظمة لم تفكر بقبور أهلينا، وما كانت سماؤنا يوما ضمن عنايتهم، ما كانت انهارنا باذخة في أعينهم . كنا أشرعة زمن تحطم سريعا أيها العم.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top