هذا الكلب يشبهني

ستار كاووش 2013/10/04 10:01:00 م

هذا الكلب يشبهني

حين قضى الفنان السويسري العظيم ألبرتو جياكوميتي (1901 – 1966 ) في مشغله الباريسي ما يقارب الأربعين سنة ، حيث يعيش ويعمل ، فهو بالتأكيد قد مزج كيانه مع أعماله وأصبح جزءاً منها ، حتى أن تقشف أيامه وعتمة بعض الظروف التي مرّت عليه نرى غبارها واضحاً فوق هذه الأشباح الغريبة التي صنعتها يداه ، إلى درجة أن ملامحه ونحافته الشديدة ، أضافة إلى تجاعيد وجهه الكثيرة أصبحت كأنها بورتريت شخصي قد انتهى من العمل عليه تواً . هذا الفنان الذي يشبه أعماله بشكل غريب هو من قال ذات يوم حين كان يتحدث عن تمثال الشهير ( الكلب ) الذي نحته سنة 1951 ( هذا أنا ، رأيت نفسي ذات يوم أتسكع في الشوارع ) هذه الكلمة التي تحيلنا الى ضياع الإنسان المعاصر كما تكشف لنا جانباً أو جزءاً من حياة الفنان وتسكعه في حانات باريس وأزقتها أيام الفاقة والعوز التي مرّت عليه وما عاناه في فترة ما من عدم الاعتراف به كفنان له بصمة خالدة ستبقى إلى الأبد . إذاً حتى الكلب فيه شيء من جياكوميتي وليس أعماله الأخرى فقط .
استعدت أعمال هذا الفنان المهم والمؤثر هذه الأيام وأنا أتطلع الى عمله الكبير ( المرأة الواقفة ) في إحدى الصالات الكبيرة لمتحف الفن الحديث في مدينة روما . تظهر المرأة في هذا العمل في حالة من التأمل وهي تنظر بثبات إلى أمام بشكلها الشبحي المتآكل وكأنها هيكل عظمي خرج تواً من مقبرة قديمة . لقد نفذ الفنان عمله هذا بمادة البرونز وبحجم أكبر من الحجم الطبيعي ليعطي للعمل تأثيرا كبيرا وسطوة واضحة . كذلك نلاحظ في هذا التمثال كما في أعماله الأخرى ، كيف يتحول الأنسان على يد هذا الفنان الفذ الى شاهد على العصر بكل ما يحمله من غياب يجعلنا نتعاطف مع هذه الشخصية الشاحبة والتي تستطيل الى الأعلى وكأنها مجموعة خيوط مجدولة مع بعضها ، لتعانق الفضاء بكل ضعفها الإنساني وهي تحرك في دواخلنا تساؤلات عديدة حتى بعد أن نبتعد عنها فترة من الزمن .
التفكير في الإنسان هو الأثر الذي سيتركه في نفوسنا هذا الفنان ، هذا ما ينتابني غالباً وأنا أتطلع الى أعماله التي توصّل الى معالجتها بهذه التقنية في منتصف أربعينات القرن العشرين ، بعدما قدّم قبلها أعمالاً مثل ( القصر في الرابعة فجراً ) و ( انتهاء اللعب ) وغيرها الكثير بتقنيات مختلفة ومواد عديدة ، الى أن أخذت أعماله بالتصدع والتآكل ، ليس بالمفهوم السلبي بل لإظهار قيمة تعبيرية من داخل مادة البرونز .
أعمال هذا الفنان أقرب الى معجزة تشكيلية ، هو الذي اجترح هذه الأشكال الموغلة في نحافتها وغيابها الذي هو إشارة كبيرة لوجودية الإنسان في القرن العشرين وهو يحمل همومه ويسير في طريق مجهول لا يعرف نهايته . فنّه الكبير والمتفرد وأشكاله الموحشة التي قدمها لنا باستطالاتها وتأثيرها ، وحتى طريقة عيشه التي فيها شيء من البوهيمية والبساطة ، والفرار من كل ما هو متكلف ومادي ، كل هذا جعل الكثير من مبدعي ومفكري عصره يرتبطون معه بصداقات عميقة ، مثل الفيلسوف الوجودي سارتر والكاتب جان جينيه الذي قال له في أحد حواراتهما العميقة ما معناه ، لا أحد يربح من أعمالك هذه ، لا أنت ولا نحن ولا قاعات العرض ، الرابح الوحيد هو البرونز لأنك حمّلته بكل هذه الطاقة والإبداع وحوّلته إلى شيء فريد .

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top