اللص غوغان

ستار كاووش 2014/01/10 09:01:00 م

اللص غوغان

وأنا أقف أمام لوحة بول غوغان الشهيرة ( صباح الخير سيد غوغان ) في متحف براغ ، التي يظهر فيها بشكله الغامض معتمراً قبعته ومعطفه الطويل ويعبر قنطرة خشبية صغيرة وسط الأحراش حيث تحييه امرأة من الأهالي ، فكرت مليّاً بتقنية هذه اللوحة التي تعكس قوة نرجسية غوغان ( 1848 – 1903 ) وبأسلوبه الذي يكاد يكون قد انتحله من رسام شاب معاصر له ونسبه بشكل تعسفي لنفسه ، والفنان الشاب الذي أقصده هو أميل برنارد ، هذا الفنان الباريسي والصديق المقرّب وقتها لفنسنت فان غوخ . غوغان استهوته أعمال هذا الفنان رغم أن برنارد ( 1868- 1941 ) كان يصغره بعشرين عاماً ، وهو في بداياته محاولاً أن يشق طريقه الفني في باريس القرن التاسع عشر وسط رسامين عظام لهم مكانتهم وتأثيرهم . وبينما هو منغمس برسم نساء وموضوعات من مقاطعة بريتاني ، أخذ منه غوغان كل شيء ، موضوعاته وتقنيته ومعالجاته - قبل رحلته الشهيرة إلى جزيرة تاهيتي - بشكل يثير الريبة والفضول . لكن الكثير من النقاد ومؤرخي الفن يتغاضون عن ذلك ولا يتوقفون عنده كثيراً مع الأسف ويعتبرون أن هذا الأسلوب ( أسلوب برنارد ) قد دفعه غوغان إلى أقصاه وطوره بشكل شخصي وكبير وأثر من خلاله أيضاً على فنانين كثيرين ، خاصة في ما يتعلق بالاتجاه الرمزي . لكن حتى هذه اللوحة التي ذكرتها في البداية فيها انتحال من نوع آخر إذا نظرنا لها من زاوية أخرى ، فعنوانها مستل بنعومة من عنوان لوحة غوستاف كوربيه الشهيرة ( صباح الخير سيد كوربيه ) الذي رسمها قبله بأكثر من ثلاثين سنة .
هكذا يبقى غوغان شخصية تثير الكثير من الجدل ، كما فعل في علاقته مع فان غوخ وكيفية وصفه له بالرسام الفاشل رغم أنه كان يعيش معه ويصرف من نقود أخيه ثيو التي كان يرسلها إليه بين حين وآخر ، والأهم من ذلك أنه كان يعرف موهبته جيداً . لماذا فعل غوغان كل ذلك مع أصدقائه والمحيطين به كما فعل مع زوجته الدنماركية وأولاده الذين تركوه وغادروا باريس إلى الدنمارك بسبب أنانيته . كان غوغان شخصاً استحواذياً يحاول أن يأخذ من الآخرين ومن الرسامين بالذات ما يحلو له بعد أن خسر كل شيء في التجارة بسبب أهوائه وتقلبات شخصيته . لكن الذي ساعده على المضي في طريقه بنجاح هو ذائقته وحساسيته الفنية وقوة شخصيته وخياراته و ( سرقاته ) التي كان يعرف نتائجها جيداً . مكانة غوغان الآن في تاريخ الفن تفوق مكانة برنارد بكثير وشهرته تفوقه بشكل هائل وذلك بسبب النقاد الذين أغمضوا عيناً وفتحوا الأخرى وهم ينظرون إلى أعمال هذين الفنانين بشكل غير عادل .
ترى ما هو السبيل إلى توقف سرقة أساليب الآخرين وتقنياتهم ، فهذه الحالة موجودة على مرّ العصور يساندها بعض الأدعياء أو النقاد لأغراض قد تبدو غير مفهومة في الغالب . من يسرق لوحة من متحف يعاقبه القانون بالسجن ، ومن يسرق أسلوب فنان آخر ويرسم من خلاله مئات اللوحات التي تجعله ثرياً وشهيراً ، لا يعاقبه القانون بل يحصل على مكافآت وإشادة دائمة بتميز إبداعه وقوة حضوره !! أليس هذا شيئاً غريباً وغير مفهوم ؟ كيف لنا الحكم إذن على فنانين من نوعية غوغان هذا الفنان العاشق للأشياء التي لا تعود إليه ، هو الذي مات بعدها في تاهيتي – بعد فشله في محاولة انتحار سابقة - حيث غطت زوجته السمراء وجهه بخصلات شعرها الأسود وهو يرقد ساكناً وكأن لسان حالها يقول ، ارقد أيها الفنان الصاخب بهدوء ودع الآخرين يمضون بهدوء أيضاً.

تعليقات الزوار

  • مهدي المعلم

    شكرا للمعلومات الغزيرة ايها الفنان الرائع ---هناك الكثير من الفنانيين من هم يرسمون ولكنهم تنقصهم المهارة والفكر والاداء ويائتي غيره لديه هذه الصفاةفيكون بذلك قد حقق شئ لم يراه غيره من الفنانيين وبذلك لاينسب الى الرسام بل ينسب الى صاحب الاداء والفكر ويؤسس

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top