في تسعينية ظلال الأجداد المنسيين

علاء المفرجي 2014/01/22 09:01:00 م

في تسعينية ظلال الأجداد المنسيين

لم يبرح بارادجانوف ذاكرة السينما، والاحتفال بالذكرى التسعين لميلاده أعاده إلى الواجهة مرة أخرى بعد اكثر من عشرين عاماً على رحيله.. فمثل هذه الشخصية الاستثنائية، من الصعوبة ألا تخلّد..
وأكثر من سبب يجعل هذا الأرميني المولود في جورجيا والدارس في روسيا  الذي عاش ما تبقى من حياته في أوكرانيا، ليس أقلها انه مع قرينه العبقري تاركوفسكي وأحياناً الروائي والمخرج فاسيلي شوشكين، كانوا أول من رسخ ما عرف بالسينما الشاعرية.. وانه كان بفنه وحياته خارجاً على السائد ومتمرداً على سطوة أعراف وتقاليد النظام الشمولي في الاتحاد السوفييتي سابقاً.. وعلى عظمة وقيمة ما قدمته السينما السوفيتية على مدى سبيعين عاماً، فإن هناك، من خرج على جادتها بطبيعة أفكاره وتجريبية أساليبه.. وكان من هؤلاء سيرجي بارداجانوف، الذي قال مرة" هناك لحظات يصار فيها إلى إعادة النظر في كل الأفكار والعلاقات والقواعد المعتادة".. وكانت هذه اللحظات هي كل حياة بارادجانوف، مغامرة، وتمرداً على السائد، وتأسيساً لأفكار جديدة..
ظلال الأجداد المنسيين.. كانت تحفته التي نبهت عشاق السينما إلى موهبة، ستفرض حضوراً طاغياً فيما بعد.
اغترف من الأساطير الشعبية كل ما صنعه من إبداع، وكان الشعر هاجسه.. الشعر هو الخطوة الأولى لإعلان تمرده، ليس في اعتماده لغة لسينماه، ولكن حتى في صياغة موضوعات أفلامه، بل وحتى في نمط حياته..فسخط السلطة السوفيتية عليه، بدا مع توثيقه لسيرة شاعر أرمني راهب عاش في القرن الثامن عشر، واختتمها عن شاعر عاشق استلهمه من إحدى روائع ليرمنتوف.. والشعر كان  قد وقف إلى جانبه في محنته في السجون السوفيتية لأكثر من عقد ونصف من عمره، من خلال الشاعر أرغوان، الذي تدخل شخصياً لدى بريجينيف لإطلاق سراحه، بل انه أشترط هذا الأمر، مقابل تسلمه جائزة لينين.
خمسة عشر عاماً في سجون النظام اقتطعت من عمره الإبداعي، بتهم ظاهرها اللواط، والمتاجرة بالقطع الفنية، وباطنها مجاهرته بإبداء الرأي المخالف، وتمرده على الامتثال والأدلجة..
ويكفي ان نقف هنا عند خطاب له خلال مأدبة أقيمت في مدينة كييف تشير إلى طريقة تفكيره ونمط حياته ، ودواعي اللعنة البريجينيفية التي حلت عليه حيث يقول:
«إنني أحب الأعياد الاشتراكية... وأحب خصوصاً احتفالات الأول من أيار – مايو – (عيد العمال). في العام الماضي، عشية الاحتفال بهذا العيد، توقفت شاحنة قرب المبنى حيث شقتي في كييف، وهي في الطابق السابع كما تعلمون. وهي تطل على ساحة «الأبطال». فور توقف الشاحنة قام عمال بإنزال لفافة هائلة الحجم عن ظهر الشاحنة. ثم صعد بعضهم إلى سطح البناية المواجهة ليلقوا من هناك مجموعة من حبال ربطت في الأسفل أطرافها بأعلى اللفافة، وراحوا يسحبون ليتبين أن ما يسحب إنما هو لوحة قماشية عملاقة راحت ترفع مثل شراع سفينة ضخمة. في البداية انكشف الشعر الأسود السميك، ثم العينان والأنف والفم، لتتشكل ملامح وجه يعرفه العالم أجمع. كان وجه كارل ماركس... هبت رياح نفحت وجنتي ماركس وبدا أنه مستاء تماماً من ذلك. ضاعف العمال من جهودهم، تحت إشراف رجل يرتدي ثياباً كاكية اللون. في النهاية تم تثبيت اللوحة ورحلت الشاحنة وهدأت الريح لتصبح نظرة ماركس في لوحته الممتدة من أعلى البناية إلى أسفلها نظرة لا تنم عن أي شعور. وحين هبط الليل، أضاءت في أعلى سيرك مجاور كلمة «سيرك» عملاقة، ولكن في الوقت نفسه أضاءت عبارة إلى جانبها تقول: «إنه مجد الحزب الشيوعي السوفياتي». لم يرقني الأمر فهاتفت الرفيق إفرام زافاتس، مدير السيرك، لأقول له ان التجاور بين الكلمة والعبارة يشكل استفزازاً تخريبياً. جن جنونه طبعاً. على أي حال، في لحظة ما، بدأ سكان البناية التي غطيت واجهتها بصورة ماركس يعودون إلى شققهم. فأضيئت عين ثم عين أخرى.  خلال الليل كانت السماء قد أمطرت، وأدى تراكم الماء على اللوحة إلى أن يغور خدّا ماركس إلى الداخل وتجعد شعره المبتل وطالت لحيته، لأرى الوجه الذي كان يمثل ماركس يتحول أمام عيني إلى وجه أنغلز...».

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top