الجلاد مثقفاً

شاكر لعيبي 2012/11/16 08:00:00 م

الجلاد  مثقفاً

اعتقدَ الجلاد الفرنسيّ شارل- هنري سانسون بأنه كان يشتغل بأمانةٍ و"ضميرٍ" لصالح الثورة الفرنسية. وقد برّرت الأهدافُ النبيلة للثورة وجموحُ قادتها الأهوالَ، بشهادته وشهادة جميع المؤرخين والكتاب المتأخرين. لم يغتفر سانسون لنفسه إعدامه آخر ملوك فرنسا، وظل الأمر يؤرقه حتى أن هناك صفحات في المذكرات تعلن أسفاً وحيرة وندماً، ومديحاً لشجاعة لويس السادس عشر وشارلوت كوردي مثلاً.

إضافة إلى روبسبير (1758- 1794 وكان يعمل محامياً)، نفذ سانسون وعائلته حكم الإعدام بالعديد من رجالات الفكر والثقافة والفن مثل الموسيقيين جون- بابتيست كسنيل (1755-1793) وجون- بابتيست لوروا، والأدباء: جوزيف- دومينيك روكي، وجان- بيير بريسو (وهو بالأحرى جاك- بيير بريسو 1754- 1793) الكاتب السياسي والرحّالة ومؤلف العديد من الأعمال المنشورة حول نظرية القانون والتاريخ الطبيعي، وجان- لوي كارا (1742 - 1793 ) الصحفيّ والكاتب والمترجم، وجان- فرانسوا دوكوس (1765 - 1793) المهتم بالسياسة والفلسفة، وجاك لوكليرك الذي أعدم بعمر 34 عاماً، مدير جريدة (الوثائق الوطنية والأجنبية)، وجاك رينيه أيبير (1757- 1793) الصحفي الشهير ورجل السياسة ومؤسس الجريدة الساخرة (الأب دوشيسن) والموظف في رقابة مسرح المنوعات سابقاً كما يرد في المذكرات. ولعل وصف سونسون للعسكريّ المثقف المعدوم شارل-فيليب رونسان (1751- 1794) بالأديب أيضا يأتي بسبب نشاطه النظريّ. ثم الطبّاع والمكتبيّ أنطوان-فرانسوا مومورو (1756- 1794) رجل السياسة والمثقف والناشر الذي نشر كتاباً عن عمل المطبعة ظل مرجعاً تعليمياً لوقت طويل. وجون- بابتيست كلوتس الملقب بأناشارسيس (1755-1794) مؤلف المصنفات والمحاضر في المتاحف. والكاتب الصحفي من أصل بلجيكي بيير- جان برولي (1750- 1794)  مدير جريدة (مُواطِن العالَم) الباريسية. ثم رجل القانون ريشمون فيلوت. هذا فقط  في الجزء الرابع الذي بحوزتي من مذكرات آل سانسون. وفيه يقدّم لنا الجلاد "المثقف" مرة أخرى دروساً مروّعة تتعلق بنا مباشرة.

فقد وقعتْ في ما سُمّيَ بالثورات العربية، بعد الاستقلال ومنذ الزمن الناصريّ، إعدامات مماثلة لكتاب وأدباء وصحفيين وساسة مثقفين. حاز حكم البعث من التصفيات الشنيعة الحصة الأوفر. وقائع عراق صدام حسين مشهورة ولا ضرورة لذكرها، بينما الأمثلة على (جلادين- مثقفين) لم يمارسوا القتل بأيديهم ولكن صمتوا وساندوا ورافقوا جميع  مراحل"الرعب" الثقافي في العراق، الفعليّ والرمزيّ، فإنها من الشهرة بمكان. ما زال رموز هذا النمط من الجلاد في بحبوحة وتبجّح دون اعتراف صغير مثل اعترافات سانسون وبعض أسفه. أكاد أقول هنا بأننا نتحدث عن المثقف جلاداً. عندما زال النظام السابق، ارتكبت أيضاً جرائم مماثلة بحق "رموز" البعث الثقافية، الغنائية خاصة، التي لم تهرب من العراق بعد الاحتلال عام 2003، ودائما باسم ثأر مقدّس وغليان شعبيّ مُنح شرعيةً شعبية، بل مورس "بضمير" رخيّ البال.

ومثلما حدث في الثورة الفرنسية، ترتكب اليوم في سوريا، باسم الحالة الثورية الحاسمة وحرقة القلب المشابهة، بعض الاغتيالات أو الدعوات العلنية لقتل أدباء وممثلين ومثقفين ومحامين محسوبين على نظام الأسد الدمويّ. القتل انطلاقاً من "الرمزية الثقافية" ومن دون محاكمة حقيقيةٍ أو صورية، على نمط محاكمات الثورة الفرنسية المشروحة أيضاً في كتاب سانسون، ظل الممارسة الأوسع في العراق وسوريا. العقل دائماً في غيبوبة، الندم غائب، والمبررات القوية في متيسّر اللاعبين جميعاً، القاتل والقتيل، الجلاد والضحية.

يأسف الفرنسيون اليوم على أهوال المقصلة الثورية، وهذه الأعداد الكبيرة من مثقفيهم المهدورة دماؤهم تحت شفرتها. وهذا الأمر يفيدنا، لو أفاد بأمثولةٍ صغيرة، عندما نُصِرُّ على حضور المجتمع المدنيّ الذي يضع القانون وحده معياراً، بعيداً عن الهيجان وشرعيات القتل "الثوري" دون محاكمات عادلة، أو حتى محاكمات مستعجلة مثل التي أقامتها الثورة الفرنسية في مرحلتها الأولى.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top