دراسة في العلاقة بين أتباع الديانات في العراق في القرون الأولى للإسلام

دراسة في العلاقة بين أتباع الديانات في العراق في القرون الأولى للإسلام

نظمت مؤسسة الحوار الإنساني بلندن أمسية فكرية للدكتور جعفر هادي حسن تحدث فيها عن "العلاقة بين أتباع الأديان في العراق في القرون الأولى للإسلام"، وقد أكدّ في مستهل حديثه أنّ محاضرته في مجملها ستكون "مقتصرة على علاقة أتباع الأديان مع بعضهم بعضا، وليس عن تعامل الدولة معهم"، وهذا يوحي لنا عن خطورة الإجراءات التي كانت تتخذها الدولة، لأسباب شتى، ضد أتباع الديانات الأخرى مثل اليهودية والمسيحية والصابئية. ذكر الدكتور جعفر عدداً من الأمثلة التي تدلل على وجود هذه العلاقة الطبيعية بين أتباع الأديان الأخرى خلال القرون الماضية، "فعلى الرغم من تنوّع مكوّنات المجتمع العراقي وأديانه فإن أتباع الأديان لم يفضلوا العيش في أماكن معزولة كما كان حال اليهود في أوروبا، بل كانوا يعيشون بحرية وانفتاح على الآخرين"، وعلّل وجود بعض الحارات الخاصة في العراق لأسباب دينية لأن "العيش فيها لم يكن اضطراراً، بل كان خياراً لأصحابها" هذا إضافة إلى انفتاحها على الآخرين، الأمر الذي يفضي إلى الاختلاط والتفاعل والألفة مع أتباع الديانات الأخرى. وقد وصف المُحاضر هذه الحالة بـ "النسق العام" وقال بأن أي شيء يحدث خارج هذا النسق العام هو استثناء لهذه القاعدة وخروج عليها. وقد أفضى هذا النسق العام إلى توثيق العلاقات الاجتماعية من صداقة وزاوج بين كل مكونات المجتمع العراقي. وأورد الباحث عدداً من الأمثلة التي تؤكد على حضور المسلمين للاحتفالات والمناسبات الدينية وغير الدينية مثل حضور "يوم السعانين" أو الخروج إلى الأديرة. كما أشار إلى الصداقات الوطيدة بين المسلمين وأصحاب الديانات الأخرى مثل علاقة الصاحب بن عباد الوزير بأبي إسحق الصابئ أو الشاعر ابن عبدل الذي ساعده "مجوسي" على دفع مهر الزواج. ومن مظاهر قبول الآخر والانفتاح عليه ما كان يحدث في مجال الدراسات العلمية فقد كان المترجم والناسخ والمنطقي "المسيحي" يحيى بن عدي، و "المسيحي" متى بن يونس يدرسان على يد الفيلسوف "المسلم" أبي نصر الفارابي، وكانت ليحيى بن عدي حلقة درْس يحضرها بن مسكويه والتوحيدي. وفي السياق ذاته أشار المُحاضر إلى أن الطبيب "المسلم" عيسى بن علي كان قد قرأ على يد "المسيحي" حنين بن إسحق، وأنّ ثابت بن قرّة "الصابئي" قد درس على يد "المسلم" محمد بن موسى، وأن العالِم "المسيحي"، والمترجِم من السريانية إلى العربية عيسى بن أسيد كان يدرس على يد ثابت بن قرّة، وكان الطبيب "المجوسي" المعروف علي بن العباس يدرس على يد موسى بن يوسف بن يسار. ذكر الدكتور جعفر بأن بعض اليهود قد درس النحو على أيدي النحاة المسلمين وأصبح معروفاً في هذا الاختصاص مثل النحوي هارون بن الحائك الضرير. كما توقف عند مجالس المناظرات التي كانت تُعقد بين أتباع الأديان والمذاهب في البصرة وبغداد حيث كانوا يجادلون بعضهم بعضا. فقد كان الفيلسوف أبو إسحق الكندي يناظر ابن الراوندي، بينما كان الجاحظ يلتقي ابن ماسويه وسلمويه وحنين بن إسحق وشمعون الطبيب. ولم تكن هذه المناظرات مقتصرة على المؤمنين حسب، وإنما كانت تشمل غير المؤمنين الذين لا يؤمنون بدين محدد مثل الدهريين والطبيعيين وغيرهم. وقد ذكر الباحث بعض الشخصيات التي تحضر هذه المناظرات منها العالم اليهودي أبو يعقوب البصير "من القرن الحادي عشر"، وأبو عمر أحمد بن محمد بن سعيدي، وكان بعضهم يطالب المسلمين بعدم الاستدلال على عقيدتهم من كتبتهم وسنّة نبيهم لأنهم ينكرونها عليهم، وقد كانوا يشترطون على المُناظِر أن يستدل بأدلة عقلية تحتكم إلى الجدل المنطقي وقد وافقه الحاضرون على هذا المقترح الجريء. واللافت للانتباه أن الشرط الأساسي في هذه المناظرات هو "أن يؤثِر المُناظر التصادق، وينقاد للتعارف، وأن يكون الحق ضالته، والرُشد غايته"، وهذا يعني التأكيد على التعارف والصداقة، ونبذ التصادم والعداوة. توقف الدكتور جعفر هادي عند ملاحظة شديدة الأهمية مفادها أن الكتب التي ألّفها الكُتاب غير المؤمنين أو التي تنتقد الإسلام كانت تُنشر وتُباع في الأسواق على الرغم من تحذير المتدينين المتشدّدين الذين يمنعون أبناء جلدتهم من شرائها وقراءتها كما هو حال رجل الدين اليهودي سلومون بن يروحيم الذي قال: "إن منْ يتجول في المدن والأسواق، ويبحث عن العلوم غير الدينية في كتب الفلسفة، وكتب ابن الراوندي وابن سويد، التي لا تعترف بوجود الله، ولا بكتب الأنبياء والتوراة، فإن الله سيعذبه، ويكون مصيره جهنم إلى أبد الآبدين"، ثم عزز المحاضر كلامه بعدد من الكُتّاب الذين كانوا ينتقدون في مؤلفاتهم الديانات السماوية الثلاث مثل أبي يعقوب البصير، وسعد بن منصور بن كمونة وغيرهما. وأكثر من ذلك فقد ذهب الدكتور جعفر إلى القول بأن "أفراد العائلة الواحدة كانوا ينتمون في بعض الأحيان إلى دينين مختلفين" ولم يفسد هذا الانتماء للود قضية
ثم ذكر المُحاضر أكثر من مثال على تحوّل بعض الشخصيات المهمة إلى الإسلام من بينهم الطبيب والفليسوف "اليهودي" أبو البركات "من القرن الحادي عشر" الذي أسلمَ، فيما بقيت بناته الثلاث على ديانتهن اليهودية وقد طلب أبو البركات من الخليفة مساعدتهن للحصول على إرثهن بعد وفاته، وقد رأى المُحاضر في هذا الطلب "سلوكاً حضارياً متقدماً للاعتراف بتعدد الأديان".
برهن الدكتور جعفر من خلال هذه الأمثلة على وجود نسق عام عاشه أتباع الديانات والمذاهب في القرون الأولى للإسلام، ولا يزال هذا النسق قائماً في الوقت الحاضر، كما يذهب المُحاضِر على الرغم من بعض المحاولات اليائسة لتغيير هذا التركيب البنيوي للمجتمع العراقي، وتخريب العلاقة بين أتباع الأديان والمذاهب المتعايشة في العراق منذ زمن طويل.
اختتم الدكتور جعفر محاضرته بالقول: "من الضروري اليوم أن نؤكد بكل وسيلة سلمية متاحة، ليس فقط على أهمية بقاء هذه التعددية وضرورتها، والحفاظ عليها، لاستمرار مجتمع آمن سليم، بل يجب التأكيد أيضاً على نشاز ما يحدث من حالات اضطهاد لأتباع دين من الأديان، أو مذهب من المذاهب الدينية، أو تهميشهم أو تهجيرهم، أو فرض طريقة حياة عيش معينة عليهم، والتي شهدنا بعضها في الفترة الأخيرة، لأن استمرار هذه المحاولات سيقود في النهاية إلى كارثة تُمزِّق نسيج المجتمع وتدفع به إلى مستقبل مظلم". وتمنى على التربويين ومقرري المناهج الرسمية في العراق أن يفيدوا من هذه الأمثلة التاريخية الناصعة، ويُدخلوها في المناهج المدرسية ليتربى أطفالنا على تقبّل الآخر والتعايش معه كما كنّا نفعل قبل بضعة قرون مضت.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top