الرسائل المتبادلة بين الرصافي ومعاصريه

الرسائل المتبادلة بين الرصافي ومعاصريه

إن الحديث عن الشاعر الكبير معروف الرصافي، ومواقفه ليس من الواجبات الأدبية التي يمليها الاهتمام بآثار أعلام اليقظة الفكرية، بل هو من الواجبات الوطنية، فالرصافي لم يكن أديبا حسب، بل كان من أركان الحركة الوطنية ومشاركته في الأحداث الوطنية والقومية ، دليل على كل ذلك، ومن هنا تجيء الدعوة إلى إحياء ذكرى هذه الشخصية الفذة وإقامة كل ما يصب في إظهار عظمته وتفوقه من ندوات ودراسات، وإحياء ما ندر من آثاره النفسية. 

إن الاحتفاء بالكتاب ، إنما هو احتفاء بالجهود الإنسانية جمعاء حيث وجود ثمرات من الآثار الفكرية القيمة، كما انه في الوقت نفسه تقديم لواجب الثناء والتقدير لهم على ما نمتع به أنفسنا من هذه الثمرات.
وها هي مؤسسة المدى للإعلام وللثقافة والفنون تقدم للمكتبة العراقية كتاب (رسائل الرصافي9 المتبادلة مع أعلام عصره، لتضيف أثرا مهما من آثار ابرز أعلام اليقظة الفكرية في العراق الحديث، ومما يزيد من أهمية ذلك، ان يقوم بإعداده وتحقيقه احد المخلصين لآثار الرصافي من العلماء هو الأستاذ الكبير عبد الحميد الرشودي، وهو من الشخصيات الأدبية اللامعة، وقد اغنى المكتبة العراقية بالعديد من مؤلفات أعلام العراق، ومنذ ان اصدر كتابه الأول (ذكرى الر صافي) عام 1950 فإن همته التي لا تعرف الكلل منصرفة إلى إحياء آثار هؤلاء الأعلام وما تفرق منها في بطون الصحف، والمجلات والكتب المختلفة.
يقول في مقدمة كتابه: كان جمع الرسائل المتبادلة بين الرصافي ومعاصريه هاجسي منذ سنين خلت ، وكان من كلفي بتتبع آثار الرصافي وشغفي بتقصي أخباره ان وقع لي جمهرة صالحة من الرسائل التي دبجتها يراعته أو مما كتب إليه بعض الفاضلين من معاصريه وهي في جملتها ليست بذات طابع شخصي محض بل فيها ما تضمن موضوعات عدة في ضروب شتى من العلم والمعرفة ،منها ما يتصل بعلم النحو أو الكلام أو العقائد ،ومنها ما يتصل من قريب أو بعيد بسياسة البلاد وأوضاعها الاجتماعية.. وفيها ما هو ذو طابع إنساني يدور حول إعانة ذوي الحاجات من الفقراء وطالبي العلم والعمل ممن يقصدون الرصافي مستشفعين..
ولاريب ان أدب الرسائل ، ليس من الآداب الجديدة، وتلك المجاميع الأدبية القديمة تعج بأنواع هذه الرسائل وما تضمه من توجهات عقائدية وفلسفية وسياسية ليست بعيدة عن الأذهان.. رسائل القديس يوحنا، أو رسائل نهرو إلى ابنته أو الرسائل بين مي زيادة وجبران خليل جبران ، ورسائل أمين الريحاني والرافعي والآلوسي والكرملي، وفي تراثنا لا ننسى رسائل المعري وأبي اسحق الصابي والخوارزمي.
لقد أصبحت الرسائل الشخصية.. وسيلة فاعلة وحميمية لتفريغ مشاعر كاتبها فضلا عن تواصله مع الآخرين.. وتحفل هذه الرسائل بالكثير من الأسرار تستجلي بها صفحات ظلت مطوية لسنين طويلة، وصارت مفاتيح إلى أدق خفايا هؤلاء الأدباء.
وفي أدب الرسائل، تجد كتّابه على سجيتهم من غير تخوف أو تزلف ، وتجد فيها الحقيقة التي لاتجدها كاملة في النصوص المعلنة، ولكنها بينة متوثبة في الرسائل الشخصية إلى من كانوا موضع السر، وبهذا تكون هذه النصوص وثائق فردية لا يستغنى عنها في عالم البحث والتحقيق كما أصبحت كتب التراجم والسير تعتمدها بشكل رئيسي.
يضم كتاب (رسائل الرصافي) مئة وثماني وعشرين رسالة تبادلها الرصافي مع أعلام عصره من الأدباء والعلماء والسياسيين.. أقدمها رسالة الرصافي مع أعلام عصره من الأدباء والعلماء والسياسيين أقدمها رسالة الرصافي إلى الأب أنستاس الكرملي وتاريخها 28 كانون الأول من عام 1906 وموضعها أبيات من قصيدة للشاعر عبد المحسن الكاظمي تشوقا بها إلى وطنه العراق.. وتضمنت رأي الرصافي وهو اللغوي القدير، في بعض الألفاظ التي وردت في القصيدة.. وقد ألحق بعدها وحققها الأستاذ عبد الحميد الرشودي بتعليقاته وهوامشه على تلك الرسائل.
إن مجموعة رسائل الرصافي التي سعت مؤسسة المدى إلى تقديمها للقارئ المتلهف لكل جديد، تضمنت عددا من المزايا تتلمسها عند قراءة نصوصها ومنها ان القارئ للرسائل يجد الرصافي لم يتغير عما عرف عنه، فما زال الأديب البليغ والعالم الفذ.. والإنسان الذي كان الشعر اقل مواهبه..ولعل اقتناعي بإضافة هذه الخصال إليه، لم يكن في يوم من الأيام اقوى مما هو بعد قراءة هذه المجموعة من الرسائل.. بل كان من المتوقع ان يجد فيها القارئ ما يشعر بغير ذلك، والرسائل في اغلبها شخصية لم تعد أصلا للنشر.. ان البحث عن الحق كان ديدن الرصافي ، وأفنى به العمر، وعدل في سبيل ذلك جهداً فكريا كبيرا يستأهل التحقيق والتنويه، وقد اعترف في اكثر موضع ان أستاذه في هذا المنهج كان أبو العلاء المعري وقد سماه شاعر البشر.ومما له صلة بذلك ان الرصافي في رسائله إلى بعض وجوه عصره، ممن تبوأ المناصب الكبيرة، قد فرق بين الموقعين العام والخاص، فرسائله الخاصة إلى أصدقائه التي تضمنت مسائل خاصة.. لم يظهر فيها موقفه العام والثابت، وعلى الأخص الموقف السياسي، وتلك النقطة يجب ان يراها الباحث بعين الحقيقة، لقد كان الرصافي صديقا حميما للكثير من رجال السياسة ،غير ان موقفه السياسي منهم غير موقفه الخاص، والأمثلة على ذلك كثيرة ومتفرقة بين سطور الرسائل.
وفي أغلب رسائله، كانت لغة الرصافي صافية، لم يعتورها الوهن بسبب كون الرسائل الشخصية.. أو أنها مرسلة إلى من لا يعنيهم أمر اللغة وقواعدها.. فالرصافي لم يتجرد من كونه لغويا في كل ما كتب.. والدلالة على ذلك تنهض في ما بين أيدينا من رسائل خاصة فما بالك في مؤلفات كتبت لتعلن على الناس.. إن شعر الرصافي ونثره يدلان انه وقد وسع اللغة بحثاً ولفظاً، إضافة إلى الحفظ.. إلا انه يزيد على ذلك.. انه اودع آثاره أطرافاً من المباحث ، تقطع بأنه شارك اللغويين في جهودهم وجاذبهم الرأي ترجيحاً وابتكاراً.
إن الرسائل التي كتبها الرصافي في أثر الهجمة التي شنها خصومه بعد صدور كتابه (رسائل التعليقات) عام 1944 تقطع بشكل يدفع كل الشبهات حول إيمانه ، وتنهض هذه الرسائل مع وصيته المنشورة في الكتاب نفسه (ص170) لتقدم دليلا ثابتا، إلى الأبد على ان الرصافي عاش ومات مسلما مؤمنا ويكمن إيمانه القويم بثورته على ما طرأ على أذهان الناس من عادات بالية وزخارف فاسدة.
كما ان عددا من الرسائل تبين مأساة الأديب في الشرق، الأديب الذي لايمالئ السلطة ويلتصق بها تزلفا، أعني بها الرسائل التي تتصل بالعوز (المادي) الذي مني به الشاعر الكبير في الهزيع الأخير، من عمره وددت لو ان المحقق الفاضل أشار في هوامشه القيمة إلى ما يجلي به وجه الحقيقة ويوضح محنة الشاعر وثباته على المبادئ.
وبعد ،فهذا ما عنّ لي أثناء قراءتي لكتاب (رسائل الرصافي) ..هو بدافع الفضول لا الفضل.. وتحية إلى الرصافي العظيم لصدور رسائله المتبادلة مع أعلام عصره، وتحية خالصة إلى محققها الأستاذ الرشودي وأمنية أن يتبع ذلك من الجمهور ما يضيف إلى عقولنا ونفوسنا الشيء الكثير.. كما أود أن أبدي ثنائي لمؤسستنا (المدى) على هذا الأثر القيّم في هذا الزمن القاسي.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top