الاقتصاد الريعي وتعثر نمو المجتمع المدني

آراء وأفكار 2014/04/14 09:01:00 م

الاقتصاد الريعي وتعثر نمو المجتمع المدني

سعد محمد رحيم

ما هي الشروط الذاتية والموضوعية الضرورية، عراقياً، لإنضاج مؤسسات المجتمع المدني؟ وأيضاً، بالمقابل، ما الذي يعيق هذا المجتمع من التفتح والنمو والانتشار والتأثير؟. وقد نذهب في التفكير بالشق الأول من سؤالنا المركّب إلى التأكيد على مبدأ استقلال المجتمع المدني بمنظماته المهنية وأحزابه وتياراته السياسية ومنتدياته الثقافية وقواه الفاعلة عن سطوة الدولة لينشئ ستراتيجيته في مناخ داخلي صحي وحر، ويقرن الفكر بالممارسة.
   إن القول باستقلالية المجتمع المدني يتصل في العمق بالشكل المدني العلماني للدولة، ليس تلك التي تعارض تدخل المؤسسة الدينية المباشر في الشأن السياسي وتمثيلها له وحسب، ولكن تلك المتحررة أيضاً من سطوة المؤسسة العسكرية. ولأن صفته التنوع، لذا فلا يستقيم وجوده مع النظام الشمولي وحكم الحزب الواحد.. إن قوام المجتمع المدني هو؛ التعددية، حقوق الإنسان، الحريات المدنية، مبدأ المواطنة، وفكرة التنمية الشاملة.. ومن أجل أن يكون جزءاً من المشروع التنموي للمجتمع يكون بحاجة إلى أطر دستورية وقانونية، وبنى مؤسساتية حامية وداعمة..
   يقودنا سؤالنا السابق المركّب من شقين إلى سؤال مركّب آخر هو كذلك من شقين: كيف يمكن الحد من هيمنة المجتمع الأهلي على فضاء المجتمع السياسي وبالتالي على بنية الدولة والاقتصاد؟. في مقابل ؛ كيف يمكن تنمية المجتمع المدني ليكون المؤازر بموارده وخبراته وعقليته للمجتمع السياسي لتشكيل دولة مدنية حقيقية؟.
يتعرض المجتمع المدني في مسار ولادته وتكوّنه إلى أمراض بعضها في غاية الخطورة وتهدد جوهر وظيفته ووجوده واستمراره، منها هيمنة المجتمع السياسي عليه بشكل مباشر، ومصادرة استقلاليته، وتزييف موجِّهاته الفكرية، كما في ظل الأنظمة الاستبدادية. أو بشكل غير مباشر، من خلال التسلل إلى نسيجه التنظيمي والاجتماعي والتلاعب بستراتيجياته وأنشطته كما في ظل الأنظمة الليبرالية أو شبه الليبرالية.. غير أن الأخطر من ذلك هو اضطرار المجتمع المدني إلى ممارسة النفاق، حين يكون المجتمع الأهلي قوياً. فيُساير ايديولوجيته المحافظة لتجنب الصراع معه، وهذا ما يعزز موقع المجتمع الأهلي ويجعل موقع المجتمع المدني بالغ الهشاشة والضعف.. وفي الحقيقة، كانت قوى المجتمع الأهلي المحافظة، عبر التاريخ الحديث، تقاوم حتى الرمق الأخير، ترصين أسس مجتمع مدني فعال، وقيام دولة مدنية بمعايير الحداثة. فحين يكون البحث عن المكانة والدور والسلطة استناداً إلى واجهات المجتمع الأهلي واستغلال ضعف النظام التعليمي ورخاوة معاييره التقويمية فإن أقل الأفراد كفاءة يتبوأون المفاصل الحيوية في بنية الدولة. وهكذا تعم قيم وتقاليد وسلوكيات المجتمع الأهلي داخل المجتمع السياسي ليُصاب الأخير بالتسمم والهزال.
   إن تصوّرات الأفراد عن أنفسهم وعن انتماءاتهم الاجتماعية تتأثر إلى حد كبير بالتطورات الحاصلة في علاقات الإنتاج والتي هي حصيلة لمستوى تطور قوى الإنتاج وأساليبه وما يرافقه من حراك اجتماعي ـ طبقي. فالتغيرات الحادثة في مجالات النقل والاتصالات ودخول المكننة الزراعية وازدياد النشاط التجاري في الداخل، ومع الخارج، وبناء المصانع، وما يعقب ذلك من هجرات (من الريف إلى المدينة) والدخول في علاقات عمل وإنتاج مغايرة.. هذا كله يغيّر من أدوار ووظائف الأشخاص ومواقعهم، ويوجد لهم آفاقاً مغايرة في العلاقات الاقتصادية والاجتماعية.. هنا نستطيع الحديث عن تعزيز ـ بالمعنى السيكولوجي والثقافي والاجتماعي العميق ـ للرابطة الوطنية، وتفكك المجتمع الأهلي لصالح المجتمع المدني، حيث تصبح تلك الرابطة لا خياراً رومانسياً بل ضرورة حياة تتعلق بالمصير.
   في الفترة التي سبقت الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918) كانت الجماعات العراقية (العرقية والعشائرية والطائفية.. الحضرية والريفية والبدوية) متمايزة، وشبه معزولة بعضها عن بعض، ولم تكن الروابط التي تجمعها تشير إلى صورة مجتمع سياسي موحد ومتماسك بأية حال.. وباستثناء وضع بعض الحواضر الكبيرة (بغداد، الموصل، البصرة) المتأثرة نسبياً بثقافات وافدة (عثمانية وفارسية وأوروبية) فإن النسبة الغالبة من السكّان كانت تخضع لنظام أبوي تقليدي وقيم وتقاليد قبلية قديمة وموروثة قارّة.. كانت سطوة المجتمع الأهلي تستمد شروط قوتها واستمرارها من تخلّف البنى الاقتصادية والثقافية وانتشار الفقر والجهل. غير أنه ومنذ عشرينات القرن العشرين ارتبط نمو المجتمع المدني بالتوسع في مجال التربية والتعليم وانتشار الصحافة ودور النشر، وبروز حقول أدبية وفنية جديدة كالقصة والرواية والشعر الحر والسينما والمسرح والفنون التشكيلية، فضلاً عن تكوين النقابات والأحزاب والأندية والجمعيات. وهذه الأشكال والمؤسسات المستحدثة كانت عابرة بطبيعة تكوينها ووظيفتها للنزعات الهووية التقليدية كالعشيرة والنزعة المناطقية والطائفة. وفي هذه الآونة شهدت المدن العراقية المختلفة إلى جانب العاصمة بغداد ولادة طبقة وسطى مدينية فعالة ذات آمال وطنية عريضة. قبل أن تنتكس وتتفتت ويصيبها الإحباط.
   يستعير إريك دايفس اصطلاح (المجتمع المتخيل) من بندكت أندرسون في وصف ما صار إليه العراقيون إذ باتوا"يفكِّرون على نحو أكثر وعياً بالذات فيما يتعلق بشكل المجتمع السياسي المستقبلي للعراق". والمقصود بطبيعة الحال شكل الدولة التي تحدد العلاقة عبر عقد اجتماعي بين الفرد والمجتمع والمؤسسات القائمة والمأمولة. إلا أن مجرى الأحداث لم يتخذ المسار الذي أرادته النخب الثقافية والسياسية الوطنية.
 يخلق نظام الاستبداد تشققات عميقة في الجسم الاجتماعي لاسيما إذا كان ذلك الجسم مكوّناً من تنوعات أثنية وثقافية واسعة.. فينحصر المجتمع السياسي بالطغمة الأوليغارشية الحاكمة، ويضعف المجتمع المدني ويتفتت، فيما يأخذ المجتمع الأهلي بالانتعاش في العلن وفي الخفاء. وبعد زوال النظام تتحوّل تلك التشققات إلى تصدّعات ذات طبيعة صراعية من الصعب رأبها. وهذا ما جرى على وجه التحديد، في عراق نصف القرن الأخير. حيث استندت الديكتاتوريات المتعاقبة المشبعة بالروح العسكرية، على دعامات المجتمع الأهلي، مستمدة منه موارده البشرية، ناهيك عن قيمه وأنماط سلوكه، ورؤيته إلى نفسه وإلى الآخرين.
صحيح أن الهجرة الواسعة من الريف إلى المدينة إبان عقود الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين، والتي لم تتوقف في العقود التالية لها، فككت العلاقات الاجتماعية الاقتصادية شبه الإقطاعية في الريف. غير أن المدينة لم تستطيع استيعاب أولئك المهاجرين بسلاسة، والذين بقوا في الغالب على هامش الحياة المدينية. وعلى الرغم من هذا ظهر جيل جديد من أبناء أولئك المهاجرين متأثرين بقيم التمدين وأساليب الحياة المدينية فانخرطوا في معمعتها طلاباً وموظفين ومبدعين في حقول العلوم والآداب والفنون المختلفة.. ومع ذلك يبدو أن قيم المجتمع الأهلي بقيت في الكمون ولم تندثر تماماً. لاسيما بعد أن تورطت الدولة الاستبدادية، الريعية في حروب عبثية مدمرة بعد العام 1979، وما ما مارسته من سياسات إقصاء وقمع، وهنا انطوت صفحة حلم التحديث والتمدين والتحول التنموي، لتكشف، من جانب آخر، عن عجز تلك الدولة وضيق أفقها وقد جعلتها أزماتها المستديمة تغازل قوى المجتمع الأهلي، فانتعشت العشائرية لغة وقيماً وسلوكاً، وعادت مؤسسات الدين الشعبي لتهيمن على العقول، حتى استحالت مراكز المدن الكبرى إلى قرى كبيرة. واليوم غدا الاقتصاد الريعي المزدهر بفضل العائدات الضخمة لتصدير النفط واحداً من أهم عوامل ديمومة قوة المجتمع الأهلي وهيمنته على المجتمع السياسي العراقي.
   إن تحدّر أغلب النخب السياسية في العهد الجمهوري من أصول ريفية أو شبه ريفية مع غلبة العقلية العسكرية على توجهاتها ورؤيتها إلى المجتمع، أبقى المجتمع السياسي في تعارض مع المجتمع المدني. وقد أدت الحروب المتعاقبة منذ العام 1980 وحصار التسعينات إلى تهوين قوة الطبقة الوسطى إلى حد بعيد وتفتيتها، وبالنتيجة فقد المجتمع المدني أي تأثير يُذكر إن لم نقل أنه كاد يتلاشى قبل الاحتلال الأمريكي للعراق في العام 2003. فالمعروف أنه كلما تراجعت أمة ما في سلّم التطور الحضاري والاجتماعي وضعفت دولتها برزت العصبيات الفرعية واللوذ بالانتماءات الضيقة تحقيقاً لصيانة الناس لوجودهم وبحثاً عن الحماية. ولا ننسى بهذا الصدد العامل الأهم الذي يغذي هذه الظاهرة وهو ريعية الاقتصاد. ففي ظلها يتشكل المجتمع السياسي من فئات طفيلية تديم تحالفها مع القوى المتنفذة في المجتمع الأهلي بروابط مصالح وبممارسة سياسات تجهيل وإعاقة لفرص التنمية، وتقويض عوامل ازدهار المجتمع المدني. وهنا يكون الطريق سالكاً بين المجتمعين الأهلي والسياسي من دون المرور بالمجتمع المدني، كما أن قيم المجتمع الأهلي هي التي تطغي على عقلية المجتمع السياسي وتسيّره. فحين يكون المجتمع الأهلي أقوى من المجتمعين الآخرين فإن قيمه تتسلل إلى إدارات المؤسسات السياسية وتطبعها بطابعها. فتصبح الدولة معاقة، والديمقراطية، حتى مع وجود آليات انتخاب ومؤسسات تمثيل، هشة وشكلية. أما في ظل الديمقراطيات الحقيقية ومع اقتصاد إنتاجي (بضاعي وخدمي ومعلوماتي) فإن قيم المجتمع المدني هي التي تشيع، فيما موارده تغذّي الدولة بالأفكار وروح الحداثة والكفاءات فتتوطد قواعدها المدنية الديمقراطية.   
ينتج الاقتصاد الريعي الاستبداد، ويوفر شروط استمراره حيث تستحوذ السلطة الحاكمة على ثروات المجتمع وتبدأ بتوزيعها على وفق معايير الولاء والمحسوبية وشراء الذمم، وبذا تبدو وكأنها الدولة المحسنة التي على مواطنيها تقديم آيات الشكر والطاعة لها، فيما تنقلب المعادلة في ظل الاقتصاديات الإنتاجية/ التنموية والتي تعتمد فيها ميزانية الدولة على الضرائب بشكل خاص، وهذه هي التي تخلق الدولة الحارسة والخادمة لمصالح مواطنيها من غير منّة، وهم الذين يطالبونها بحياة كريمة وآمنة في مقابل الضرائب التي يدفعونها.. وعلى أرضية سياسية ـ اقتصادية مثل هذه يمكن تيسير ماكنة الديمقراطية باستخدام آليات المكاشفة والشفافية والرقابة، والتمثيل، وتداول السلطة.

تعليقات الزوار

  • فاروق ابراهيم

    طرح دقيق وموضوعي مفصل في في معطياته التاريخيه لتطور المجتمع العراقي وطغيان التريف على المدنيه بعد سيطرة الجمهوريات الخاكيه على السلطه زبدة الطرح هي في المقطع الاخير الذي يشير الى صعوبة ظهور مجتمع مدني فاعل في ظل بلد كامل اقتصاده ريعي لان هذا النمط من الا

  • سعد محمد رحيم

    قراءتك دقيقة دائما صديقي الأستاذ فاروق إبراهيم.. تلخص المقالة بشكل رائع.. ومن البدء تجيب على سؤالك في المقطع الأخير.. الديمقراطية بحاجة إلى أرضية اقتصادية صلبة قائمة على العمل الاجتماعي المنتج وتنوع مصادر الدخل والذي يفضي إلى إيلاء أهمية أكبر للهوية الطبق

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top