جدل الاختلاف والتنوير

آراء وأفكار 2015/08/11 12:01:00 ص

جدل الاختلاف والتنوير

- القسم الثالث - 

 

 

ج : إنصاف الخصوم
لقد حفلت أدبيات العرب والمسلمين في كل العصور بما سمي بأدب الاختلاف وأصوله ، وكان هذا النوع من الأدب مزدهراً في أوساط الفلاسفة والفقهاء والمتكلمين والمفكرين والادباء والسياسيين وعامة المسلمين ، فمن ينسى الكتب الاختلافية التي تضمنت الرأي والرأي المضاد في تأريخنا مثل : "تهافت الفلاسفة" للإمام الغزالي، و"تهافت التهافت" لابن رشد و كتاب" فضيلة المعتزلة" للجاحظ، وكتاب "فضيحة المعتزلة" لأبي الحسن الراوندي، وكتاب" الأضداد" لابن الأنباري، و" الرد على اليهود والنصارى" لابن تيمية، وكتاب " مناظرة في الرد على النصارى لفخر الدين الرازي، و"كتاب المسائل في الخلاف بين البصريين والبغداديين" لأبي رشيد النيسابوري المعتزلي، وكتاب "الحيدة " لعبد العزيز الكفاني، و"المناظرات" لفخر الدين الرازي، وكتاب " الحجة" الذي ألفه في بغداد الامام الشافعي ينتقد فيه آراء أبي حنيفة وأصحابه وتلامذته ويفندها، وكتاب " خلاف مالك" الذي ألفه الشافعي ايضاً لينتقد معلّمه مالك، وكتاب الجواب "الصحيح لمن بدل دين المسيح" لابن تيمية، وكتاب "تحفة الاريب في الرد على اهل الصليب" لعبد الله الترجمان .. وعشرات لكي لا نقول مئات من الكتب الاجتهادية المرتكزة على الاختلاف في الرأي...
ولم يتوقف الجدل وكذلك كتب الجدل عن التنافس والاحتدام في كل الساحات وكل الازمان وبين شتى الاتجاهات الدينية والطائفية والفلسفية والادبية والعلمية ماضياً وحاضراً ، ففي منتصف القرن التاسع عشر شهدت بيروت جدلاً كبيراً بعد أن نقلت البعثات التبشيرية الامريكية الى بيروت مطبعة من مالطا عام 1834، فقد نشرت في بيروت في وقت متزامن كتب كثيرة عن الجدل بين الكاثوليك والبروتستانت والارثودكس منها " دليل الصواب الى صدق الكتاب"الذي ألفه Wortaber ونشر سنة 1851 و" الهدي الأمين في دحض آراء البروتستانتيين الذي ألفه الآباء اليسوعيون" )17).
ومن بين قوانين وتقاليد أدب جدل الاختلاف التي ينبغي معرفتها والالتزام بها والتقيد بضروراتها احترام الخصم وإنصافه، وفي هذا السياق نذكر الإمام الكرجي القصاب (ت 360) الذي يؤمن بضرورة تقنين جدل الاختلاف وتفعيل حيويته يطالب في الوقت نفسه بإنصاف خصومه فيقول (مَنْ لَمْ يُنْصِفْ خُصُوْمَهُ فِي الاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ ، لَمْ يُقْبَلْ بَيَانُهُ ، وَأَظْلَمَ بُرْهَانُهُ )، وقد أوصى علماء المسلمين بالترفق بالخصم، فإذا أخطأ وأراد الإقالة وجب على صاحبه أن يقيله، وأكدوا على وجوب تجنب الإساءة إلى الخصم، فالاختلاف في الرأي لا يفسد الود ولا يقلل من الاحترام. ..
ومن ناحيته يقدم لنا الإمام الشافعي (150 / 767م) إضافة إنسانية كبيرة لأدب الاختلاف بمقولة سبق بها مقولة الفيلسوف الفرنسي فولتير بعدة قرون عندما قال" رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب " , وكذلك قوله : "ما ناظرت أحداً إلا قلت اللهم أجر الحق على قلبه ولسانه فإن كان الحق معي اتبعني وإذا كان الحق معه اتبعته" – ورد ذلك في قواعد الأحكام..
قال ذلك لأنه يؤمن بنسبية الأمر وبجدوى مجادلة مخالفيه، وهذا ما فعله عندما تقدم الشافعي الذي لقبه العلماء في عصره بناصر الحديث، لكي ينتقد ويخالف شيخه الامام مالك ابن أنس، وينشر كتابه "خلاف مالك" وفيه يتصدى لآراء مالك، ويقوم بتفنيدها ومعارضتها، ويقول مبرراً ذلك: "ليعلم الناسُ أن مالكاً بشرٌ يخطئ ويصيب، وأنه لا رأي له مع الحديث"، وإلى جانب ذلك أعاد الشافعي في مصر تصنيف كتابه "الرسالة" الذي يرد فيه على آراء أبو حنيفة النعمان وآراء مالك ابن أنس حيث كان المصريون يوالونهما ، فعل ذلك لأنه يؤمن بنسبية الآراء وبضرورة الاحتهاد، ولكي ينشر مذهبه الجديد، وهو ما فعل وكسب جولته فأصبح غالبية المصريين يوالون الشافعي والى يومنا هذا .

د : جدل الاختلاف حيوية للفكر
إن جدل الاختلاف رياضة للأذهان تغني العقول بخصوبة الحوار فتتلاقح الآراء، وتتبارز وجهات النظر المختلفة فيضاف الى العقل بفضلها عقول تثريه، ويتعرف المختلفان على سائر الفرضيات وعلى اصناف الاحتمالات والتوقعات كافة، فالجدل يتيح ذلك وهو دليل على حيوية الفكر. وبحكمته ورجاحة عقله أضاف لنا الإمام علي بن ابي طالب(ع) سمة أخرى من سمات فوائد جدل اختلاف الآراء وتضاربها، وهي التركيز على مبدأ التضاد حين قال "اضْرِبْ بعْضَ الرّأْيِ بِبَعْضٍ يَتَوَلَّدْ مِنْهُ الصَّوَابُ" فالصواب لا يتجلى بغير الجدال .
هذه الجدلية الفكرية التي عرفها الاسلام في أول عهده كانت الاساس الذي بنيت عليه مقولة تصارع الاضداد التي تضمنتها بعد عشرة قرون نظرية المادية الجدلية ذائعة الصيت.. لقد كان العرب يؤمنون بحرية الفكر وجدليته عبر اختلاف آراء المجتهدين العارفين بآداب المناظرة، حيث اعتبر الفكر الإسلامي أن اختلاف آراء أهل العلم والاجتهاد نعمة للناس وتيسير لأمور حياتهم . فالمذاهب الاسلامية : الحنفية، المالكية ، الحنبلية ، الشافعية والجعفرية فتحت أمام المسلمين آفاقاً اجتهادية وخيارات فقهية دينية ودنيوية يلجأون اليها عند الضرورة، بينما أغلق التعصب المذهبي والطائفي والحزبي والإثني هذه الآفاق، وأوقع الناس في فخ الانغلاق والانطواء على الذات الجاهلة والرافضة للآخر، فتمزق النسيج الوطني وباتت، كما يقول الكاتب الاديب امين معلوف، الهويات الثقافية قاتلة!! ..
وبما أن الاختلاف سنّة كونية وحقيقة بشرية فإن بعض الباحثين يرى ان مدناً بعينها كانت أكثر من غيرها قد رعت أو احتضنت الاختلاف في الرأي (الاجتهاد) الى درجة أن الباحث رشيد الخيون يصف بغداد بمدينة الاختلاف، فهي" التَّي سمحت لابي حيان التوحيدي(ت 414 هـ) بكتابة مؤلفه "الرِّسالة البغدادية"، وسمحت للرَّضي ( محمد بن الحسين الشريف الرضي، ت 406 هـ) أن يجمع "نهج البلاغة"، في وقت واحد. إنها مدينة الاختلاف، لا طاعة لمَنْ يتجاوز على طبعها، الذي أثراها في كل علم وفن"(18)
فبغداد عاصمة الخلافة العباسية كانت وما زالت همزة وصل بين امم ثلاث غالباً ما كانت محتدمة وإن وحّدها الاسلام وكتبت أروع صفحات تاريخه وهي ( العربية، الفارسية والتركية)، وفي بغداد تأسست في القرون الهجرية الثلاث الاولى المذاهب الاسلامية الخمسة سالفة الذكر التي ألهبت الاختلافات في الرأي وسمحت بتعدد الاجتهادات، ومن بغداد خرجت المدارس الفلسفية الاولى والاتجاهات الفكرية والعلمية والفنية والدينية للانسانية فتلاقح - بفعل حركة الترجمة التي رعاها الخليفة المأمون في بيت الحكمة- الفكر الهندي والصيني واليوناني والفارسي والسرياني والكلداني مع الفكر العربي والاسلامي. ..
وجدل الاختلاف يغذي المعرفة ويحقق التقدم في السياسة الدولية الى درجة أن اعتبر أحد الباحثين أن القرن التاسع عشر الذي شهد قفزات في تطور جوهر وفكر السياسة الدولية قرن الجدل ووصفه بالقرن الذهبي بمعيار ثراء "جدل الايديولوجيا" وهو الجدل الذي تدين له البشرية بالفضل في اعتلاء التفكير العقلاني مستوى متميزاً، وفي انتقال الدراسات الاجتماعية ودراسات النخبة وأساليب الحكم والديمقراطية نحو آفاق جديدة... كما اعتبرت بعض فترات القرن العشرين دافعة على تقدم علوم السياسة وعلاقات السلطة الحاكمة بالشعوب وبعثت نهضة هائلة في فكر الاستقلال الوطني ويقظة الشعوب الملونة ونهاية الاستعمار ونشر مفاهيم التنمية على عكس القرن الحالي الذي وصف بقرن انحدار العلاقات الدولية الى مستويات دنيا وانحدار ادواتها الى أشباه حروب معظم اطرافها ميليشيات وعصابات...واحتل الدين مساحات واسعة في فراغ السياسة وصارت الطوائف والمذاهب لاعبين اساسيين في اقامة التحالفات وعقد الاتفاقيات "( 19). وكما نرى فإن القرن الذي يتصف بالجدل أينما كان زمانه ومكانه تجري خلاله التحولات ويشهد معاصروه تقدماً في كل الجهات
لقد عرفت الحضارات الانسانية بأسرها وبكل تنوعاتها جدل " الاختلاف" وشجعت عليه لأنه يخلق حالة إبداعية تنويرية تطلق العنان للحيوية الثقافية القائمة على التنوع الفكري، وهي التي تحرر العباد من قفص الفكر الآحادي العصبوي المظلم فتنير طريقه.. ولا يختلف عاقلان على ان جوهر التقدم الفكري على المستوى الكوني الانساني يكمن في حيوية الجدل وفعالية المناظرة، من غير أن يمسَّ صاحبَ الرأي المخالف بسوء.
وبطبيعة الأمر فإن أحد أهم حقائق الاجتماع البشري الخلاقة هي الجدلية، وهذه الجدلية تؤكد لنا كل هنية حيوية واقعنا الإنساني الذي يؤكد بدوره مجموعة من الحقائق نذكر منها ان الحقيقة نسبية ودينامية ومتحركة، وهي، فوق هذا وذاك، ذاتية وغيرية ، فبقدر ما يصح جدل الاختلاف مع الغير يصح مع النفس أيضاً، وصدق من قال "خالف نفسك تسترح". ويستدل على ذلك القول الذي نكرره عموماً بأن كل شيء يحمل ضده أو نقيضه، وهو ما قال به كارل ماركس في قانونه عن وحدة الاضداد وصراعها في إطار نظريته عن المادية الجدلية.
ومن الملاحظ ان أتباع المذهب الحيوي في الاسلام وهم يتحدثون عن فعالية الحركة يرونها دائمة النشاط حيث ينقلب الضد الى الضد في حركة صعود وهبوط تجسد الوجود، كما يرون عدم ثبات الكون فالعقل هو وحده الثابت.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top