حين تنتفض القصيدة على المسكوت عنه.. في ((روزنامة)) كــاظـــم الـحـجـــاج

حين تنتفض القصيدة على المسكوت عنه.. في ((روزنامة)) كــاظـــم الـحـجـــاج

د. نادية هناوي

من الملامح الفنية في قصيدة ( رزنامة) للشاعر كاظم الحجاج، إنها تقوم على إعلاء صوت المتكلم جمعاً وافراداً، مقابل تهميش المجموع الغائب والمخاطب. وفي ذلك لمحة فكرية تناصر الصوت المتتفض الذي لا يهادن الآخر ولا يخشاه لأنه في نظره قد يكون ملغياً وربما ثانوياً. وهذا ما يجعل نسبة البوح والإعلان عالية فتبدو صادمة ومحرضة وليست امتثالية.
وتسخر القصيدة من الواقع والتاريخ الذي لا يستدعيه الشاعر لأجل إحيائه؛ بل إعادة كتابته متخذاً من ذلك معبراً شعرياً للانتفاض والتحريض والنقمة ساخراً من أصحاب القرار الذين اعتلوا كراسي الحكم في العراق.
ويكلف الشاعر مجموع الساردين المتكلمين بضمير الـ(نا) بسرد الحكاية التاريخية التي فيها يختصر الشاعر تاريخ العراق الحديث والمعاصر جاعلا الساردين لا غائبين ولا مخاطبين، لأن ذلك ينفي عنهم صفة التمركز وسمة التحريض.

إن المجموع المتكلم هنا هو الأصل والمحور وهو المتبوع لا التابع وبهذا تتوكد السمة ما بعد الحداثية لهذه القصيدة التي من أهم ميزاتها إنها انفتاحية لا تتبرم من الحدود بين الأجناس الادبية وتتوق الى التداخل والاندماج كانعكاس للتعولم الذي شمل مختلف المجالات. وهكذا تنفر القصيدة من الحداثة وتتعالى على ثوابتها المركزية المعقلنة بالمنطق لتفكك منظومتها القيمية حافرة في المغيب والمهمل:
• عن حكام العراق: السابقين والسارقين واللاحقين ..
أمس امتلكْنا ثلاثة ملوك .. لا أكثر .
حتى الرضيع لن يتعب في عدَّهم :
ملك . ملكان . ثم .. "كشٍ ملك"!
وثلاثتهم لم يملكونا .. أبداً .
بل هم لم يحموا ثالثهم الصغير مِن غدرنا !..
وإذا كان حكام العراق كثيرين عبر التاريخ، فإن تصنيفهم سيتطلب تحديداً زمانياً( الماضي والحاضر والمستقبل) والمفارقة أن المجموع السارد لم يقصد الزمانية؛ بل قصد إعلاء السلبي المهمش على مركزية الزمان فجعل الهامش الذي هو متدار ومفضوح (السرقة) حالاً محل المركزي، وعمل حرف الجر( عن) على اختصار الموضوعة الشعرية في إطارها التاريخي من خلال السرد، وقد تركزت وجهة نظر السارد حول ثنائية الامتلاك /السرقة. وهذا ما جعله قادراً على قلب المركز هامشاً لتكون الغلبة للمجموع المتكلم. وأهم سمات هذه الغلبة أـن ارتفعت المفردة المحكية لتكون بفاعلية المفردة الشعرية( كش ملك/ الجزمات المطاطية/ ابن الكلب/ سابع جار/ حفاظات اطفالنا / جروا صلوات )
وهذا يقارب الاثينيوم الذي يخرج اللغة الشعرية من مركزيتها الرسمية لتصير هامشاً، فاسحاً المجال للغة النثرية اليومية لأن تسود، وبما يجعل الواقعية الساخرة جارفة تكتسح المركزيات بقوة كونها لا تميز ولا تخصص بل تعمم وبشيوعية كلية. ومن الملوك الثلاثة الى الجمهوريين الثلاثة الذين حكموا المجموع ولم يتمكنوا من الاحتماء منه. وهذا معطى مركزي فيه المجموع ليس واقعاً تحت رحمة الحاكم بل هذا الاخير هو الواقع تحت غدر المجموع ولا رحمته.
أما الاسلبة بالنفي في (لم أره / لا أكثر/ لن يتعب/ لم يملكونا/ لم يحموا) فإنها أسلبة ايجابية أو إيجاب مؤسلب بازاء ثنائية المركز /الهامش وبها تحول السلبي إلى موجب.
وليس في تحول السارد من ضمير النحن الى ضمير الأنا ابتعاد عن المركزية كون السارد بالأنا يظل يستدعي التاريخ أيضاً حافرا في مسكوتاته ساخراً منه مفككاً رسمياته مبتدئاً بالحكام /الملوك الثلاثة ممازجاً بين المضادات (الهجري /الميلادي والعاقل /اللاعاقل نحب/ نكره زار /قتلناه) ليكون آخرهم مغلوباً من خلال التناص التاريخي مع واقعة صفين وما بين ثيمتي (النجاح والرسوب ) يتحدد الاخفاق:
وبالاشتغال السردي على الضمائر يتحقق التشويق ويظل السارد المجموع يسترجع تاريخ العهد الملكي فيقف عند حدث اكتشاف النفط ساخراً منه بثنائية( فوقنا/تحتنا) ومهمشاً مركزية لفظة النفط مبدلاً لها بلفظتي( زفت وقير) في دلالة على سخرية المجموع المتكلم، ناهيك عن مركزيته التي جعلت استخراج النفط هامشاً مؤسلباً بالتدني والسواد والتعبيد والعبودية وهذا ما حقق للنص مزيداً من الادهاش مع الاستهزاء. ولأن التوظيف السردي يتطلب استثماراً لتقانات فنية أخرى غير المفارقة لذلك وظف الشاعر التناص والمنتجة والمونولوج والحوار الحر غير المباشر والمشهدية، ثم يعود السرد الى الماضي مجدداً ليستكمل تاريخية الاحداث فمع استخراج النفط تأتي الاطماع لابسة رداء تبشيرياً تارة واستحواذياً تارة أخرى وتنقلب مركزية الغنى بالنفط الى هامشية المجاعة واليتم. وهكذا تجمع مفارقة المركز /الهامش الواقعية بالهزل:
ومع الملكين الثاني والأخير ؛ كانت منظمات الثواب المسيحية توزع علينا كسوة الشتاء في الصيف . وعصبة الأمم تتثاوب علينا بطحين الحليب في المدارس ، مع كريات زيت الحوت "لتقوية إيماننا"!، حالنا حال أيتام إفريقيا..!
ويقطع السرد الاسترجاعي بمشهد درامي يسرده متكلم فرد، موجهاً الحبكة نحو التصاعد والتدويم بالحركة والترصد..وبالاسترجاع بضمير المجموع المتكلم ستسرد حقبة تاريخية تالية تتمثل في الحكام الجمهوريين فيجدهم السارد ثلاثة أيضاً أما رابعهم فلا يذكره معهم لأنه متفرد لا ينطبق عليه وصف الملكية ولا الجمهورية فلا هو ملك ولا حاكم بل زعيم مستعملا السرد بضمير الأنا في إشارة إلى أن هذا موقف إيديولوجي يتبناه السارد بنفسه عبر وجهة نظر إيديولوجية تحمل تضادية تجمع المتناقضات( طيب/ لا طيب جمهوري/ ملكي الرئيس/الزعيم زفت/قتل احب /أكره) وما تمركز العدد سبعة وثلاثة في البناء الشعري إلا تعالق ميثولوجي يدل على الولادة والبعث. ويطفق المجموع المتكلم بالاكاذيب ويضيق ذرعا بالحيل والدسائس لذلك كاشف بالفاظ( غرفة النوم/ مغلوبون/ كافرون/ البستنا الداخلية)
ويصل السارد في تتبعه لتاريخ العراق المعاصر الى مرحلة التغيير وسقوط لدكتاتورية بالعام 2003 وقد وصفه بأنه العام الشهير الذي شهد تغييراً جذرياً به تهرأت المركزيات وانتعشت المهمشات.
وبالفاصل المشهدي يتصاعد مستوى الدرامية ويأتي اسم ماجد الشطي كلغز سيحل في ختام البنية السردية لكن السارد يتحول مجددا من كونه مجموعا متكلما إلى سارد فرد:
"قطع مبرمج آخر":
.. ولسوف أتذكر الآن المذيع الكويتي الوسيم "ماجد الشطّي".. وسوف تعرفون لاحقاً أيضاً لماذا تذكّرته..
وتتحول مركزية الحكام الآتين بعد بريمر الى مجرد هوامش بتكرار الفعل( جاء) لكن المفارقة أن السارد المجموع الذي كان مركزاً سيتخلى عن دوره لسارد غائب عبر توظيف الحوارية التي تدعم البناء السردي. وتكون المفارقة ساخرة بواقعية الموت الذي صار مجانا والحياة التي بدت عشوائية حتى أن أشهر العسل تجيء الى جنب أشهر الهجرة والميلاد، وبعد القطع الوصفي يعود السارد بضمير الأنا مركزياً اسمه سومري وقبيلته معروفة بينما يغدو كل ما هو مركزي من اسماء بلدان وحكومات وشخصيات سياسية محلية وعربية وعالمية مجرد هوامش، ومن ثم يقطع السرد بوصف سياسي يمركز الارهاب ويكاشف فاعليه مدينا إياهم بمفارقة (احيانا / تماما ) وسخرية(يدين/ يبصق):
الاسلاميون يدينون الارهاب أحياناً ، ..
تماماً مثل من يبصق على نفسه في المرآة!
ويعود السارد بضمير الأنا متعالياً في موقع المستشرف والمتنبئ بالقادم بالفعل المضارع ( تاتي/ ابقى/ أتظاهر ) ثائراً بنقمة واقعية تجمع بين مركزية التظاهر بمعناها الرافض بالاحتشاد والتجمهر والتجمع وسخط السخرية المرة عبر التحديدين الزمانيين (الساعة الخامسة عصر الجمعة) والمكاني ( من داخل قبري..مع بعض الدفانين الشباب) وينفرج الاحتدام في التحبيك مع القطع بكلمة( أخيراً ) حيث السارد مركزي بضمير الأنا يستعيد أسماء كان قد أوردها بشكل عرضي كلغز.. فيحلها هنا (فؤاد الشطّي وماجد الشطّي) موجها نقده الساخر بمفارقة( الاحزاب / سورة الاحزاب) (الماء العذب/ اللقب العذب)( نستورد من عرعر) وليست البغية من وراء ذلك التحريض على التاريخ وعدم الامتثال له حسب؛ وإنما توكيد أن التاريخ صار مفككا ومفتتا، فيه المجموع هو الحاكم والفاعل.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top