محـمـد خـضيـر:أميل الى الجوهري والأساسي من التجارب والمعارف.. فليس كل ما نكتبه ذا قيمة

محـمـد خـضيـر:أميل الى الجوهري والأساسي من التجارب والمعارف.. فليس كل ما نكتبه ذا قيمة

يرى أن البصرة في قصصه ليست مكاناً جغرافياً ، إنما ارتساماً زمنياً لصيرورة شخصية

حاوره: علاء المفرجي

اجزم,, انه لا يستطيع أي مؤرخ أو متابع للمشهد السردي في العالم العربي، دون ان يكون للقاص العراقي (محمد خضير) الصدارة في الاهتمام،

فالرجل ومنذ مجموعته (المملكة السوداء)، قد أحدت تغييرا نوعيا في مسيرة القصة العربية، هذا الكتاب الذي أعتبر فتحا في هذا المجال، ونال ما يستحقه من الإطراء من النقاد والقراء، وكان كافياً لوحده أن يكون كتاب الخلود المرتجى لمحمد خضير، لكنه واصل الكتابة والنشر، ولم يقع ضحية لكتابه الأول – كما يقول الناقد فاروق يوسف - . فكرّت مسبحة نتاجه الأبداعي لتتوِجْهُ كواحد من اساطين السرد العربي.
ومحمد خضير وهو قاصّ وروائي عربي عراقي ولد في البصرة عام 1942. درس المراحل الابتدائية والمتوسطة والثانوية في البصرة ودخل دار المعلمين وتخرج منها عام 1961 ومارس التعليم في محافظة البصرة، و ذي قار، والديوانية، مدة تزيد على الثلاثين عاماً.

ظهرت أولى قصصه في مجلة (الاديب العراقي) عام 1962, ترجمت قصصه إلى اللغات العالمية منها الإنكليزية والروسية والفرنسية ونالت الجوائز عليها كجائزة سلطان العويس في الإمارات العربية المتحدة عام 2004, وجائزة القلم الذهبي من اتحاد الادباء والكتاب العراقية عام 2008, اشتهر على صعيد العالم العربي بعد نشره قصتي (الأرجوحة) و(تقاسيم على وتر ربابة) في مجلة الآداب البيروتية.

ومن أعماله المملكة السوداء ، التي صدرت عن وزارة الاعلام، بغداد 1972. في درجة 45 مئوي . 1978، رؤيا خريف . 1995،

تحنيط 1998، حدائق الوجوه. 2008، سيرة مدينة بصرياثا . 1996، كراسة كانون . 2001، الرجل والفسيل، الحكاية الجديدة 1995 (كتاب نقدي)، السرد والكتاب(استعمالات المشغل السردي 2010 ، (كتاب العقود.. سرديات).. وغيرها.

احتفت به (المدى) مع مجموعة من المبدع البصريين، عبر معرض البصرة الدولي للكتاب المقام حالياً، من خلال جلسات نقدية عن تجربته في الكتابة، وأيضا إعادة طبع كتابه (حدائق الوجوه)، فحاورته للوقوف عند أهم محطات إبداعه.

 ما الذي أسهم في طفولتك ونشأتك في اختيار الكتابة والخوض فيها.. ما الذي تحدثنا عنه بهذا الخصوص؟

- لا تختلف سنوات طفولتي عن سنوات الأغلبية من الكتّاب العراقيين، لكنها قد تختلف قليلاً في بيئتها وتأويلها اجتماعياً وسيكولوجياً. عشتُ في كنف أبوين حتى سنّ متقدمة، وعمّرت أمّي اثنين وتسعين عاماً. لكن أيّاً من هذين الحدّين العائليين لم يكن فاعلاً ثقافياً في نشأتي، فقد كان كلاهما أميّاّ. كما لم تُتح لي فرصة الكتابة عن الوالدة في حياتها، بعد وفاة الأب عن واحد وستين عاماً. كتبتُ نصّين مختصرين عن هاتين الركيزتين (في كتاب: ما يُمسَك وما لا يُمسَك) ولكن بعد سنوات من وفاتهما. لم أكتب عن أصدقاء الطفولة صفحة واحدة تستحق الاحتفاء ما عدا قصة أو قصتين. لكن شذرات من حياة البيت الذي ولِدتُ فيه، وكان واقعاً قرب النهر (شط العرب) ظهرتْ في كتاب (بصرياثا) بينما لم تحظ سنوات المدرسة الابتدائية بقسط وافر من الكتابة. كنت كما يبدو طفلا انعزاليا، أو شقيّاً. وما عدا هذه الصفحات المتفرقة لا أتذكر شيئاً مثالياً من طفولتي، ولا عن طموح الكتابة المستقبلي، فقد كنت أطمح لأن أكون معلّماً. وأعتقد اليوم أن ما نقيّده بالكتابة وحده ما يسترعي الانتباه والاعتبار. وما تلا من سنوات النشأة الأدبية كان أكثر اختفاء والتواء، حتى أن كتابة سيرة ذاتية "حرفية" كان غير ممكن على الاطلاق. أنا أعجب كيف تهيأت لزملائي الكتّاب ذاكرة واضحة المعالم كي يعودوا بها للوراء. إنّ تذكّر الماضي وإعادة كتابته ليس متطابقاً تماماً، خاصة لمن اعتاد تحريف الحوادث لتخدم أغراضه السردية.

 قياساً لعمرك الابداعي، تبدو مقلاً في نتاجك، هل لذلك علاقة بإحساسك بأهمية ما تنتج وحرصك أن يكون مختلفاً؟

- لا أكتب إلا ما أحسبه جديراً بالتقييد والتظهير، هذا إذا اعتبرنا السرد استرجاعاً لما ضاع في دهاليز الذاكرة (وهذا الفعل الحكائي يختلف عن سردية التصوير الفوتوغرافي التي تتقيد بالحاضر فقط). حاولت في قصص (رؤيا خريف) خرق قاعدة السرد تلك، أي قاعدة الاسترجاع، فابتكرتُ عالماً لا وجود له إلا على سبيل الخيال المحض، فكان الثمن فادحاً. الكاتبُ مرهون لتجربته، لقدرته على الاسترجاع، ولا قيمة لاختراعاته الخيالية المحض. بعض الأحيان أختصرُ الأزمانَ المتباعدة وأقرّبُ ما بينها، كما فعلت في (كتاب العقود) لأعوّض ما فاتني من فرص ضائعة. أميل الى الجوهري والأساسي من التجارب والمعارف. ليس كل ما نكتبه ذا قيمة. وأشعر أحياناً بتفاهة نصوص اضطررتُ إلى كتابتها. هناك مَن يُساق الى مشغل الكتابة مثل سجين محكوم بالأبدية (هناك مَن يحكم عليه بذلك). إن مجرد تفكيري بهذا الحُكم يجعلني أكفر بدوري في الحياة، واختياري سبيل الكتابة. الحكم المؤبد بالكتابة قدَر مخيف، لأنه يصلبني مثل بروميثيوس، الطامح الكبير. هذا ما أنا عليه. لا أملك أيّ طموح في أن أكون كاتباً، بعد تلك السنين.

 المملكة السوداء" كانت حدثاً ثورياً بتقديري في السرد العربي، هل كنت تتوقع مثل هذا، وما الذي يجعلها تنال هذا الاهتمام النقدي، بمعنى هل كنت تتوقع حدوث هذا الاهتمام؟

- كلا. بل لا أعير اهتماماً لما قد تحدثه كتُبي في القارئ. كانت مجموعة قصص (المملكة السوداء) تجربتي في الإقامة قرب الواقع (واقع منتصف القرن ومصادفاته الشخصية والاجتماعية) واستكشافاً لقدرتي على استرجاعه قصصياً. نُشرت المجموعة العام ١٩٧٢ بعد مضيّ عشر سنوات على أقدم قصة فيها، بعد تردد كبير. مع هذا كانت خطوة في المجهول، خارج الواقع اليومي الاعتيادي، حتى أن نقّاداً اعتبروها انجازاً مبكراً لما سُمّي لاحقا بالواقعية السحرية. وليس هذا الرأي دقيقاً، فهي واقعية بالقدر الذي كان كاتب عراقي يبحث خلاله عن "حقيقة" النص المختفية في ركام من الزيف والتزييف الفعلي للواقع، خاصة في قسمها الثاني عن حرب الشمال وحرب حزيران العربية. أما قصص قسمها الأول التي اتكأت على شخصية المرأة وتمثيلاتها الجنسانية أساساً، فقد تمردت على طبيعتي المحافظة والسرّية إلى أبعد الحدود. لا أنكر تأثير نماذج فؤاد التكرلي النسائية في مسرودات "المملكة السوداء"، لكنه كان ثوريّاً أكثر مني (أكثر دون_ كيشوتية)، فيما كنت إلى جانبه مثل التابع المسالم "سانشو".

 تكتب لترحل في مخيلة وأشكال عوالم قد تكون صادمة أو غريبة هل هي طريقتك للاحتفاء بالوجود والحياة والروح، أم أن الكتابة عندك ملاذ للهرب من قسوة الواقع، أم تراها حيلة فنية للهروب من المباشرة في القص؟

- كتابتي القصصية جميعها تقترب من الواقع وتلتصق بوجوهه الأليفة، لكنها قد تُصدَم بانقلاباته وتغيراته المخيفة، فتهرب إلى الخيال. وكان هذه التغيير المفاجئ يجعلني أستصغر معطيات الواقع الاعتيادية، وجوهه اليومية، فأعظِّم من شأن الصغائر والمنظورات الاعتيادية. بذلك اضطرتني قوة الواقع وجبروته (وأحيانا جبروت سلطته الخفية) الى البحث عن مجهولاته، تصعيد حوادثه الى درجة صهرها وتمييعها، كي أحصل على سبيكة أفضل منها. لم أنجح في نصوص كثيرة، وأفلحت في نصوص بعينها، وصرتُ أبتعد رويداً عن المظهر اليومي والخادع للواقع وشخصياته. وكدت أصل إلى بُغيتي، وأقترب من "حقيقة" الأشياء الدافعة للسرد. وأشير هنا مثلاً هنا إلى آخر كتاب صدر لي (العشّار) المبنيّ على عزل نماذج من الواقع وتصعيد طوبولوجيتها السردية. إن الغاية من ذلك لا تنفصل عن المتعة في صناعة كتاب سردي، ينمو في مساره خارج الممارسات السردية الواقعية ذات المدلول اليومي والعابر. بهذا الصناعة الدقيقة قد يبدو الخطأ التقني قاتلاً للكتابة، فما بالك بالشطط الذي قد يسببه الانفصال الحاد عن الواقع؟

 

 منذ مجموعتك الاولى (المملكة السوداء) تبدو واقعياً لكنك لا تنتمي للواقعيين الأوائل .. فأنت ترى "القوة الكامنة في الفكرة الواقعية، الشيء الفريد الكامن وراء الشيء الواقعي"... ما تعليقك؟

- تجد هذه الفكرة الواقعية تطبيقَها الأمثل في القصص الأخيرة، أكثر من الأولى، خاصة تلك التي تهتم بالأبعاد المتعدّدة للواقع: المرئي وغير المرئي، المعيش والمتخيل. في مجموعتي (المَحجر) الصادرة هذا العام اختبرتُ فكرة السرد المحاجِج أو المحرِّض، من غير التزام حرفيّ (أيديولوجي) بالحادثة الواقعية (انتفاضة تشرين). قد تكون القصة وسيلة للتفكير مثل المقالة، لذا اعتبرتُها واحدة من البراهين على صحة الوقائع والتواريخ والأشياء، إنها تقول شيئاً بطريقتها الخاصة. لكن القصة برهان بسيط، بمعنى أنها لا تريد أن تشارك الفلسفة منطقها العقلي المعقد، كما في السرد القديم (رسائل ابن سينا والغزالي والعطار الحكائية). القصة أقرب إلى نظام التعبير الرمزي والتأويلي (مثل قصص كليلة ودمنة) فهي تؤدي معنى لكنها تهتم بالوسيلة والطريقة، اللغة والحبكة والإحساس، والأكثر من ذلك النهاية أو الإقفال. لذا عُرِّفت القصة بأنها: فنّ الإحساس بالنهاية.

 في قصصك هناك خلفيات تاريخية وأخرى فلسفية وعلمية.. كيف تستثمر هذه المرجعيات فيما تكتب من قصص؟

- الأفضل تسميتها براهين، حيث تتعدد الوسائل والطرق للوصول إلى النهاية. وبعض هذه البراهين يذوب، او يتلاشى نهائياً، ليفسح للحادثة الاندماج بالواقع الحي. أي أن الفكرة التاريخية والفلسفية والعلمية، وحتى المعمارية والتشكيلية، رافعات للمعنى الواقعي المغيَّب أو الضعيف. فلكي تدلِّل على نهاية الحرب وأثرها المدمر تستدعي فكرة الأبراج القديمة، كبرج بابل. ولكي تبرهن على تفاهة الوعي وانحطاطه تكافئ ذلك باستدعاء حكمة المتصوفة وبستانيّي العالم. أما الشعور بضيق المكان واستحالة السفر المادي بين المدن والأقطار فقد تذهب إلى أساطير أخرى عن الرسم والسينما والموسيقى والأكروباتيك. وهلمّ جرّاً.. لماذا التنوع في البراهين أو طرق السرد هذه؟ أعتقد إضافة إلى المتعة السردية الخالصة، تكمن الغاية الأساسية من كتابة القصص: الذهاب إلى ما وراء الواقع المعطى والبحث عن القوة الكامنة في الأشياء المرئية. وبعبارة أخرى اختبار حقيقة المادة الواقعية على الاستمرار في إنتاج البراهين القصصية.

 الكتابة التي لا تسندها تجربة نظرية جيدة هي كتابة قد تحيد عن غاياتها الأساسية" هكذا قلتَ مرة، في (الحكاية الجديدة) خلاصات ونواتج ثانوية وخواطر وتأملات ترشحت عن كتابة القصص.. هل تدخل في مجال النقد الأدبي أم تراها شكلاً نظرياً لما تكتبه؟

- أعني بالتجربة النظرية هنا: وعي الذات، وتدوين تحولاته سردياً، أي مراقبة الأفكار وهي تعمل داخل النصّ السردي. لم أكن أطيق القراءة المتأخرة لأعمالي، فأردتُ تسويغها/ تسويقها في الحال التي ترافق كتابة القصة. وفي كراسة كانون_ التي دار حولها لغط كثير_ طلبتُ ما يشبه ذلك القول: اسردْ كما تفكر. إنها لحظة السرد الفورية التي تستدعي برهانها/ تأويلها في طيّات الحادثة المروية (ضرب بغداد بالقنابل في ١٧ كانون الثاني ١٩٩١). انتظرنا سنوات حتى أتى النقّاد لتأويل معنى روايات كافكا وقصصه (سيكولوجية اليهودي المنبوذ في أغلب قصص كافكا، أو مازوخيته في قصة: مستعمرة العقاب، أو مثليّته الجنسية في قصة: طبيب ريفي) بينما هذا المعنى المؤجَّل متعلّق بشكل قويّ بالحادثة أو اللغة السردية لكافكا. يئس كافكا من قرائه أن يستدلّوا عليه في زمانه، فأوصى بإحراق مخطوطاته. ومع مرور الوقت، وتغيّر النُظُم وأيديولوجياتها، ازداد غموض تلك القصص. على هذا النحو، انتظرنا سنوات كي نؤول مغزى رواية (١٩٨٤) لجورج أورويل، الذي أراد المؤلف إيصاله في وقت كتابتها خلال الحرب الباردة العام ١٩٤٨. فكم نحتاج من وقت كي نقرأ (كراسة كانون) ونستدل على المعنى المبطَّن في روايتها لأحداث تلك الليلة، بعد أن فاتنا إدراك ذلك في حينه؟

 في كتبك الثلاث الاولى (المملكة السوداء)، و(في درجة 45 مئوي)، و(بصرياثا) رسمت معالم مدينتك.. هل كنتَ تسعى لذلك وما حدود هذه التجربة؟

- البصرة في قصصي ليست مكاناً جغرافياً وحسب، إنما ارتساماً زمنياً لصيرورة شخصية، وحيّزاً للتخييل والحلم بمدينة أخرى. لكن أيّ مرتسَم آخر مفتعل لها كان سيتطابق ونسخة سابقة قامت قبلها، فهي تستمر بالتناسخ الى ما لا نهاية. هذا ما حاولت قوله (أحلام باصورا) الحلقة الثانية من (بصرياثا). ثم تأتي الحلقة الثالثة (العشّار) لتبحث عن أسماء أخرى، وطوبولوجيات قصصية لرواة مجهولين، ينوب عنهم السارد الأخير في تخييل حياتهم ومِهنهم وألعابهم. إنها بهذه الحلقات المتواشجة، مدينة ذكرى، لا تظهر إلا لمن يتخيلها، ولن تستقر على حال حتى تستنفد شعاعها الأنثروبولوجي والتاريخي. والحقيقة إن قصص (بصرياثا) بحلقاتها الثلاث أنثربولوجيا سردية متحوّلة أكثر منها خطاباً تاريخياً متوارثاً في الكتب والروايات. ذكرى أكثر منها حقيقة، أو بالأحرى سيرة مخطِّط مدنٍ قديم (مسافر فقير، مترحِّل بين المدن)، وستتوالى في أذهان المخطِّطين المتعاقبين وتسافر معهم. إنها ليست نقطة على خارطة، بل مُخطَّط قابل للتشكيل والتغير الطبيعي والمناخي والإنساني. وما كتبتُه عنها (وأظنني اكتفيت وانتهيت من رسمها) يقترب من تلك الصورة التناسخية. أما صور المدينة في قصصي الأخرى فهي تخطيطات مرتجلة لصورة أصلية من بصرياثا القديمة.

 

 يقول الناقد جابر عصفور إنه زمن الرواية ويستدرك: "لا تستطيع القصيدة أن تمتد رأسياً وأفقياً وتعالج كل التفاصيل في لحظات تحول المجتمع مثل الرواية". لم تتفرغ لكتابة الرواية رغم أستاذيتك في مجال القصة القصيرة؟

- لا يعنيني الشكل الأجناسي للنصّ السردي، بقدر ما يعنيني تأليف "كتاب" متعدّد الروابط والإحالات. والرواية بمفهومها المتداول شكل مغلق لا يحيل إلا إلى أجناسيته القارّة. بينما أفضّل الشكل التعددي، الذي يحيل إلى علاقاته الداخلية بتجاوز حدود الجنس الأدبي. وأفضل الكتب السردية عندي ذاك الذي يعتمد نظام التنضيد، بمفهومه العربي القديم، أو نظام المخطوطة "النسخية" التي تفرّع من ذاتها امتدادات وحواشيَ متناصّة داخل بنيتها، أو مع نصوص خارج إطارها التنضيدي. قبلاً لم أكن أعير هذه الأنظمة السردية اهتماماً حتى شاعت كتابة النوع الروائي وأصبحت هوساً وتقليداً شيزوفرينياً. يتيح الشكل القصصي التنضيدي لكاتبه أن يفرّ من هذا "الوباء" إلى ما فرّت إليه شخصيات "الديكاميرون". فضلاً عن هذا، فهو خلاص اهتدت اليه شهرزاد بمواجهة هيمنة الطغيان الامبراطوري، وشهوة الاستماع الشفاهي في المجتمعات الإقطاعية.. الشكل الذي أعنيه هنا "كتابة" منظّمة بمفهوم ديريدا تفكك ثنائية اللغة والكلام، أو ثنائية المعنى المركزي (الذي تمثله النهاية المحددة في القصة القصيرة) أي كتابة تُعنى بالهوامش والشروح والإحالات. وأرجو ملاحظة أني لم أذكر شكل القصة القصيرة في هذا السياق التبريري، ذلك لأنها شكل يعاني ما تعانيه الرواية من مأزق بنائي ضعيف الأركان.

 أنت من جيل الستينيات، لكنك ومعك القاص فهد الاسدي لم تنخرطا في تجمعاتهم وبياناتهم وصخبهم.. ما الذي أخذته من الستينيين وما الذي تبقى منهم؟

- مقارنة بزملائي من كتّاب الجيل الستينيّ الماضي، كانت تشغلني مسائل تقنية لا تعني الأكثرية منهم، هذه المسائل أو المشكلات البنائية التي تحدثنا عنها آنفاً. الخلاف هنا لا يقع على الموضوعات والأفكار ولكن على الأشكال. ونحن نعلم أن الفن السردي هو تاريخ أشكال بالدرجة الأولى، محاولات اكتشاف واختراق وتحوّل في المواقف والقناعات. أعجَبُ ممّن يحنّ الى تلك الفترة التجريبية وهو يتمركز في ثنائية الشكل والمضمون، الواقع وتمثيلاته الجاهزة. الكتابة السردية فن القلق البنيوي والتغيير الأنطولوجي العميق للمفاهيم والنهايات. نعم، فن النهايات لا البدايات والاستمرار بتكرارها بين فترة وأخرى. حاولت في كتاب (تاريخ زقاق) إضاءة هذه المشكلة المئوية، أي إلى أي مدى أفادتنا القطائع التاريخية العنيفة في تغيير اتجاه الكتابة؟ أما وأننا بلغنا نهاية المئوية السردية، فيجب علينا تغيير طرق الوصول إلى نهايات مشابهة لها. أخطر ما يواجه السالكين طريقاً واحدة، غير متفرعة، تكرار البدايات والوصول إلى نهايات متشابهة.

 في بصرياثا قيل إنك متأثر بمدن لامرئية لكالفينو، وفي منزل النساء بقصة موبيس المتعري لغابريل جوزيبوفيشي، على الرغم من نشرك لها قبل ترجمتها بأكثر من خمسة أعوام. ما تعليقك وهل ترى في (منزل النساء) لعبة ليست شكلية بل خرقاً للسرد التقليدي وتأثيراً من السينما؟

- لو أردتُ إحصاء البصمات والنصوص التي تأثرتُ بها، لقلتُ إني كنتُ أكوكِبُ نصوصي بين نصوص لا حصر لها، وآثار متعاقبة ومتداخلة كثيرة، وهذا شأني حتى اليوم. ليست مدن كالفينو الوحيدة التي جذبتني إلى طرق كتابتها (فالموضوع مختلف تماماً بين مدن لا مرئية وبصرياثا المرئية من زوايا متعددة) إذ هناك في تراثنا العربي والأجنبي مئات الرحلات والاكتشافات التي تحيل إلى المدن اللا مرئية (أحيل هنا للمقارنة إلى مدن ألف ليلة وليلة التي تأثّرت بها السرديات المختلفة في العالم). أما قصة (منزل النساء) فقد جاءت تطبيقاً لفكرة انقسام الواقع نفسه الى نصفين، أسفل وأعلى، واقعنا العراقي المزدوج في كل شيء. لم أقرأ قصة الكاتب البولوني لحدّ اليوم. مع هذا فقد كنت على استعداد وقت كتابة (منزل النساء) للخروج من أزمة الكتابة السردية المحددة برؤية أحادية للواقع، لذا كان عزل المتن الرئيس في الاعلى من القصة عن تداعيات البطل الرئيس في القسم الأسفل يسمح بإجراء قراءتين متجاورتين أو متتاليتين للقصة. وهذه الطريقة قريبة من أسلوب اللقطات المتزامنة في السينما.

 

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top