سرد الحيوان.. من الكونتسة دي سيجور إلى فرجينيا وولف

سرد الحيوان.. من الكونتسة دي سيجور إلى فرجينيا وولف

د. نادية هناوي

تأثر العرب بحكايات وأساطير الأمم القديمة كالبابلية والفرعونية واليونانية والرومانية والفارسية والهندية كما تأثروا بالقصص القرآني،

فألفوا في القرنين الأول والثاني للهجرة كتبا في الأخبار والسير فيها المحتمل الواقعي يغالب غير المحتمل واللامعقول. بيد أن التطور الكبير الذي شهدته الحياة العربية الإسلامية وما بلغته من حضارة ورقي ساهم بشكل كبير في أن يتحدد التخييل بما هو محتمل. فغدت الواقعية هي النزعة الأدبية المتفرعة عن جذر لا واقعي. وبنهاية العصور الوسطى استقرت قواعد الواقعية في السرد العربي واتخذت أشكالا وأساليب وبقوالب فنية معروفة. وبالتكرار ترسخت وغدت تقاليد ناجزة. وقبل أن تأفل الحضارة العربية الإسلامية وبعد أن أفلت، استمر انتقال تلك التقاليد الناجزة إلى الأمم الاخرى ومنها أوروبا فأثرت في أدبائها وكتّابها. وفي عصر النهضة الأدبية تمكّن الأديب الأوروبي من تطوير بعض تقاليد السرد العربي القديم ولكن بالاستناد إلى القاعدة نفسها وهي اللاواقعية.

إن هذه التطورات التاريخية في بناء القوالب الفنية وصناعة التقاليد الأدبية هو ما يغض الطرف عنه نقاد الرواية الغربيون فلا يرون الواقعية إلا صناعة أوروبية والرواية هي خلاصتها وكأن السرد الروائي نشأ لوحده دفعة واحدة بلا تاريخ أو أصول ومن ثم لا تقاليد ولا قواعد غير ما عرفته الرواية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.

وبسبب ما أولاه النقد الغربي للواقعية من مركزية في نظرية الرواية، لم تحظ النماذج السردية التي اتخذت من اللاواقعية قاعدة اهتماما ملحوظا. ومن الكتب المؤلفة في القرن السادس عشر (خواطر حمار) للكونتسة دي سيجور(1899- 1874) ونشر بالفرنسية عام 1532 وبالإنجليزية عام 1912 وهو عبارة عن رواية غير واقعية تتضمن سردا اتوبوغرافيا يحكيه سارد ذاتي هو الحمار ويبتدئ برسالة يبعثها الحمار إلى سيده قائلا:(إلى سيدي الصغير هنري.. كنت إذا ذكرت الحمير تحدثت عنها باحتقار لها جميعا فلأجل ان تعرف عن علم حقيقة الحمير ويصدق حكمك عليها كتبت هذه المذكرات وأهديتها إليك. وسترى يا سيدي العزيز كيف كنت أنا المسكين ورفقائي من الحمير نعاني من الناس قسوة المعاملة.. وستعرف كيف أنني كنت شقيا في عهد حداثتي)

وتتبع المؤلفة تقاليد السرد العربي، فهي تظهر بوصفها الحكاءة التي تنقل للقارئ قصة ساردها مفصول عنها(سأقص عليكم في هذا الكتاب بعض الأدوار التي مثلتها معهم في زمن الصبا وعهد الشبيبة) مع توظيف القطع والوصل والأحلام والخيالية والحوار والتوالي كما أن كل قصة مستقلة بنفسها ولكنها أيضا تكمل ما قبلها من قص وتتمم الذي بعدها. وكلما تقدمنا في القراءة، تزداد الحبكة واقعية لاسيما حين يلتقي الحمار بالكلب ميدور وحين يعمل الحمار عند طبيب وتلاطفه الابنة باولين وتحبه(وكنت أنا أحبها أيضا وارثي لها وإذا كانت قريبة مني فأنني اجتهد ألا أتحرك خشية ان اخدشها برجلي)

وعلى شاكلة كليلة ودمنة يستمر السرد الاتوبوغرافي لكن بعمومية استعمال ضمير الأنا فكان الحمار هو السارد والبطل معا، مسترجعا ما لاقاه من متاعب في السوق ومخاطر في الغابة ولطف وقسوة في المزرعة مظهرا مشاعر نفسية من قبيل ضجره وهو بلا عمل أو عناده وهو يضرب بالسوط، وبسبب ما اكتسبه الحمار من خبرة صار يعرف ب(الحمار العالم).

واستمر يدافع عن بني جنسه إلى نهاية الرواية وفيها يفصح الحمار عن دوافع كتابة سيرته(والذي دعاني إلى تحرير هذه المذكرات واوجد عندي فكرة نشرها هو ما سمعته في محاورة دارت بين هنري وأبناء عمه فقد كان هنري يظن دائما أنني لا أعقل ما أفعل وأنني لا أفهم ولا أدري لماذا افعله) ولا يخفى ما في القصة من رمزية ذات غايات أخلاقية.

إن مثل هذا السرد ما كان ليكون لولا اللاواقعية؛ القاعدة التي عليها قام السرد الواقعي، ولقد استمر السرد الأوروبي على هذا المنوال فكان أن كتب لافونتين قصصا خرافية على ألسنة الحيوانات والطيور في القرن السابع عشر وكتب غوتييه قصصا غير واقعية في القرن الثامن عشر، وفيه أخذت أساليب السرد الواقعي تتطور فتحددت الخيالية وغدت مقيدة بما هو محتمل الوقوع لأسباب كثيرة. وعلى الرغم من أن الرواية في القرنين التاسع عشر والعشرين صارت واقعية بالعموم، فان ذلك لم يمنع كتابا أوروبيين من أن يهتموا بالتجريب في كتابة السرد الروائي. ومنهم فرجينيا وولف التي اهتمت بالأبعاد النفسية للشخصية فكتبت روايات فيها الشخصية هي التي تستبين دواخلها من خلال التداعي الحر باستعمال المونولوج الداخلي او المناجاة او المونتاج الزماني والمكاني ولكنها ايضا جربت كتابة سرد الحيوان الاتوبوغرافي متخذة من اللاواقعية قاعدة في روايتها(فلاش) وبطلها كلب اسمه فلاش.

وإذا كانت الكونتيسة دي سيجور اتخذت من السرد الحيواني الاتوبوغرافي بضمير الأنا أداة في التعبير عن فكرة أخلاقية تتمثل في الرفق بالحيوان، فان فرجينيا وولف اتخذت من السرد الحيواني الاتوبوغرافي بضمير الغائب أداة للتهكم من المجتمع الارستقراطي والسخرية من سلوكيات أفراده. وتبدأ الرواية بالسارد وهو يقدم عرضا تاريخيا للأصول التي انحدر منها البطل /الكلب الاسبانولي وكيف ان القرطاجنيين حين دخلوا شبه الجزيرة الايبيرية سموا الأرانب أسبان، ولذلك سميت الجزيرة اسبانيا. وفي أواسط القرن العاشر صارت الكلاب تعرف بالاسبانولية ويصل السارد إلى زمن الكلب فلاش مسترجعا تفاصيل ولادته في انكلترا (لقد فشلت الاستقصاءات في أن تحدد على نحو موثوق السنة التي ولد فيها فلاش ناهيك عن الشهر واليوم لكن من المحتمل انه ولد في وقت ما من بواكير سنة 1842) وعاش فلاش مكرما في ارستقراطية الكلاب نظرا لما لسلالته من صيت وقيمة عالية واستمرت سيدته الارستقراطية الآنسة متفورد متعلقة به أشد التعلق. وهنا يستبطن السارد مشاعر الحيوان مثلما يستبطن دواخل اي شخصية بشرية ولكن الثقل الأكبر في تصعيد التحبيك هو استعمال الوصف مع السرد فالروائح تثير انفه وأقدامه الأربع كانت(تمد وتستبقى بما ينبعث من لذة حسية من السجاد السميك النفيس الذي يلتم بمحبة فوق الأقدام أخيرا وصلا إلى باب مغلق) ويكثر السارد العليم من استعمال الاستبطانات الداخلية كاشفا عن خفايا ما تشعر به شخصية الكلب(تساءل أليست هذه أشجارا وعشبا أليست هذه هي علامات الحرية) وكثيرا ما يستعمل المفارقات الساخرة. وتأخذ الحبكة بالتصاعد حين تتخلى الآنسة متفورد عن الكلب وتسلمه إلى الآنسة باريت المقعدة، والمفارقة أن كلا من المرأة والكلب يجد نفسه مشابها الاخر. وتنفرج الحبكة وقد قرر فلاش مغادرة انكلترا إلى الأبد فعبر القنال إلى فرنسا وتقدم به العمر وصار كلبا هرما يقص للكلاب مذكراته.

إن غوص فرجينيا وولف الواقعي في تفاصيل الحياة جعلها ترى الطبيعة على حقيقتها فلم يكن الإنسان هو العنصر الرئيس فيها بل معه الكائنات الحية والموجودات الجامدة التي وإن كانت غير ناطقة فإن لها صوتا به تعبر عن مشاعرها. واستنادا إلى هذه الحقيقة ختمت وولف روايتها بالجمع بين الصوت والصمت(كان صامتا، لقد كان حيا وهو ميت الآن. هذا كل ما هنالك. والغريب ان منضدة غرفة الجلوس ظلت ثابتة تماما) ولكي تعطي للمذكرات الحيوانية بعدا واقعيا استعملت الميتاسرد من خلال فهرس متخيل يحوي مصادر كتابة هذه المذكرات وهي تتوزع بين الرسائل والقصائد.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top