فتاوى المثقفين وإطالة زمن التيه

سرمد الطائي 2013/02/16 08:00:00 م

فتاوى المثقفين وإطالة زمن التيه

الأجواء النكدة التي تحيط بالبلاد لم تمنع عشرات الآلاف من الاحتفال بعيد الفالنتاين. في بغداد وحدها كان للمجتمع المدني فعاليتان واحدة لشباب شباط صباح الخميس والأخرى لمبادرة "زائد صوتك" مساء على حدائق الزوراء، حيث صار "حب العراق" رمز فالنتاين 2013.
وعدا ذلك فإن الآلاف من العوائل خرجت الى الأسواق والحدائق والنوادي الاجتماعية واحتفلت من المنصور حتى زيونة. وخارج بغداد كانت هناك فعاليات تبدو للمرة الاولى بهذا المستوى. الاصدقاء يتحدثون عن حفل موسيقى الراب في الناصرية ومثلها فعاليات في مدن اخرى، وعلى فيسبوك نشروا صورا ومقاطع فيديو لعشرات الفرق الموسيقية التي عزفت الخشابة عند كورنيش العشار بالبصرة وظلت تصدح بإيقاع البحر حتى ساعة متأخرة من الليل، بينما اكتسى البلم العشاري باللون الاحمر في هذا الربيع المبكر.
كان الامر لونا من التمسك بالحياة في لحظة يأس سياسي، وتمسك بإعادة زرع تقاليد مدنية في لحظة ارتباك عسكري. ان المشهد مزج روح عام 2013 بطراز نادر من التفاؤل مفاده أن احتمالات الخطر القائمة توجد مقابلها دلالات مفرحة على اننا سنكون امام عشر سنوات مختلفة عن العقد الذي مر علينا بآلامه وسواده.
لقد خرجنا من احتمال ان يظهر دكتاتور وسط تعدديتنا السياسية، وشهوات التفرد تجري محاصرتها عبر الشرعية الدستورية التي استفادت كثيرا من ألوان الاحتجاج الشعبي والتي توجت بمظاهرات شباب المنطقة الغربية.
فالنتاين العراق في قلب البلاد وجنوبها، كان يحمل لون احتجاج أيضاً على ارادة الحاكم عزلنا عن الدنيا لكي يعبث بنا كما يشاء. وقد خاب سعيه الى حد كبير وارتبكت قواعد لعبته وتكسرت مصداته. وستشهد الاسابيع المقبلة الكشف عن المزيد من اسرار ما يجري اليوم في سراديب السياسة التي تشهد تقديم تنازلات لحظة بلحظة، بعد ان أدرك السلطان متأخرا جدا، انه بالغ كثيرا في تقدير قوته، وبالغ كثيرا في الاستهزاء بخصومه، وبالغ كثيرا في التقليل من شأن ارادة العراقيين وشجاعتهم.
لكن التحول السياسي العميق ورسائل الاحتجاج التي يتفنن العراقيون في صوغها، ظلت غير مرئية من قبل طيف واسع ممن يمارسون القراءة السياسية.
في بلاد الله القريبة والبعيدة، ينشغل جزء من الناس بمتابعة تفاصيل الشأن السياسي، ليقدموا للناس محاولات تفسير ويساعدوا اتجاهات الرأي العام على الامساك بالبوصلة. في تلك البلاد مراكز ابحاث وجماعات ضغط ووشائج بين الجامعة وصانع القرار، ومؤسسات الاعلام ومراكز القوى. اما في بلادنا فهناك مثقفون لديهم لغة جيدة وإلمام ببعض حقول المعرفة، لكنهم يجلسون في غرف موصدة ويحاولون تأمل السياسة ويطلقون الاحكام بشكل فاقد للصلة بما يجري في ذلك المستوى الرهيب من صناعة المواقف وتصميم ردود الافعال وصياغة التفاصيل المعقدة لرقعة الشطرنج.
المثقف الذي يمارس التحليل في بلادنا، يعتقد احيانا ان في وسعه اصدار الاحكام دون مراجعة التفاصيل، ودون إلقاء نظرة على حركة احجار رقعة الشطرنج المعقدة، ولا يكلف نفسه التواصل مع مجموعات الضغط او مراكز القوى. انه مثقف قادر على التأويل شرط ان يحصل على معطيات. ولأنه كسول فقد ظل بلا معطيات وبيانات كافية. تأويله الموهوب جاء حسن المظهر فقير المضمون، لان ادواته الصحيحة في التفسير لم تستخدم في تفكيك وصوغ بيانات واضحة عما يجري في سراديب سياستنا او حتى على سطحها. كمن يمتلك سيارة حديثة بلا وقود.
ولذلك فإن جهود التحليل والقراءة في بلادنا لم تحسن تقدير التحولات العميقة التي يشهدها اكثر من طرف سياسي. ليست لدى معظم المحللين تصورات جيدة عن قابليات الكثير من صانعي السياسات في البلاد. وهم يخفقون في التنبؤ بما يمكن فعله ولم يتسلحوا بخيال خصب كفاية لرؤية ما يمكن رؤيته. ولم يكلفوا انفسهم بالاصغاء الجيد لاشخاص اذكياء تطور اداؤهم وباتوا يعثرون اخيرا على جزء من الاهداف الصحيحة.
ان مثقفين يبدون جيدي الاطلاع يتورطون في "فتاوى" سياسية مضرة. وهكذا فإن نموذج المثقف العراقي الممتلك لادوات القراءة والتحليل، والكسول في الاحاطة بتفاصيل رقعة الشطرنج، ينتهي بطموحات خارج قانون التاريخ. تشرح له مسرح الصراع منذ خروج الجيش الامريكي، فيرفض ان يميز بين سياسي وآخر ويقول انهم جميعا فاسدون. ويقترح ان نلقي بهم جميعا من الرئيس الى النائب في سلة المهملات ونبحث عن غيرهم. ويمكن لعراقي ساخط ان يقول هذا وهو على حق لجهة حجم الالم، لكن لا احد من صانعي الرأي يتورط في فتوى كهذه، لانه سيكون مطالبا باستيراد شعب جديد لا مجرد نخبة سياسية.
لقد بدأ الشعب يتعلم كيف يصوغ احتجاجه في مظاهرات مطلبية وكرنفالات مدنية. كما بدأ جزء من النخبة السياسية بتطوير أدائه وبعضهم يطلب المشورة ويتواصل مع اكثر من جماعة ضغط تمثل الخبراء او المفكرين. لكن الخطر هو ان يبقى مثقفونا يتورطون بفتاوى خارج قوانين التاريخ، تساهم في تضييع فرص للفهم وتطيل بقاء التيار المدني داخل ضياع كبير وتشتت ندفع ثمنه جميعا، حتى لو شعرنا بالسعادة في ألف فالنتاين عراقي.

تعليقات الزوار

  • علي السعدي

    التداولية مشروع سياسي لدولة واقعية في العراق الجديد منذ أن أنشئتْ الدولة العراقية الحديثة عام 1921، إلى لحظة انهيارها بفعل الإحتلال الأمريكي عام 2003، كانت قاعدة (التوافقية) التي ينبغي أن تحفظ مصالح العراقيين ، هي الغائب الأكبر في واقع الأمر ، ولو قُ

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top