باليت المدى: عشر سنوات في المدى

ستار كاووش 2023/07/23 10:16:30 م

باليت المدى: عشر سنوات في المدى

 ستار كاووش

اليوم أصبحَ عمر هذا العمود الذي أكتبه في المدى عشر سنوات بالتمام والكمال. نعم، أكثر من أربعمائة عمود توسدت هذه الجريدة المذهلة. يالها من مناسبة، ويالها من سنوات وسط البحث عن الجمال في زوايا هذا العالم مترامي الأطراف. قد تبدو مناسبة شخصية، لكنها تعنى لي أيضاً التواصل مع الناس والمحبين وكل من يقرأ ما أكتبه، من بعيد أو قريب.

الرجل هو الأسلوب، كما يقولون، وأنا أفضل قول الانسان هو الأسلوب، وقد حاولتُ أن يكون هذا العمود يشبهني، وما أكتبه مطابقاً لأفكاري. فكما إن لوحاتي هي مرآة لروحي وللجمال الذي أنشده وأتمناه. فهذا العمود حاولتُ أيضاً أن أجعله يحمل إيقاعاً شخصياً، فصياغة اللوحة عندي مثل صياغة النص، وإن إختلفت الأدوات. وهكذا فكرتُ أن يكون هذا العمود مثل صندوق مليء بتذكارات تجوالي بين المتاحف والمدن والكثير من الأماكن غير المتوقعة التي أحببتُ أن أضعها بين أيدي القراء الذين حالت الظروف دون وصولهم اليها.

منذ أول يوم تواصلت فيه مع الصديق المبدع علاء المفرجي في الجريدة، إنفتح لي الطريق بسهولة ويسر نحو صفحات المدى، علاء هو أولى عتباتي للجريدة وهو الذي - من خلال خبرته الصحفية الطويلة- سهل كل شيء بمحبة نادرة. كذلك الأستاذ علي حسين الصحفي الباهر بإنفتاحه وتواصله الأنيق، يضاف الى ذلك كتاباته الفريدة وعباراته الرشيقة التي تعلمتُ شخصياً منها الكثير. هنا شعرتُ دائماً بأني في بيتي، حتى إن راعي هذا البيت وصاحب الجريدة الأستاذ فخري كريم، لم يتوانَ من الاتصال بي شخصياً لتهنئتي بعد قراءته عموداً (جيداً) لي، وهذا ما منحني طاقة إضافية للمضي بين الكلمات التي أكتبها من مدن بعيدة، وأرسلها مثل طائرات ورقية، تعبر الفضاء نحو مطبعة جريدة المدى.

أكثر من أربعمائة عمود متواصل كتبتها هنا في المدى التي إنفتح مداها أمامي حتى صارت مع مرور الايام، واحدة من أهم مكانين لي بما يحملانه من رمزية عالية، وأقصد الجريدة ومرسمي. المرسم بمكانه الفعلي الذي لا يمكنني مفارقته طويلاً تحت كل الظروف، والجريدة بمكانها الرمزي وأنا أرسل لها مكاتيبي من بعيد لتأخذ مكانها بين أسماء أحببتها كثيراً. خلال هذه السنوات التي مضتْ، حاولتُ الكتابة عن أصدقاء وصديقات أَلِفتهم وأحببت إبداعهم، وجربتُ التلويح لرسامين خالدين في المتاحف، كذلك حاولتُ أن أنقل شيئاً من ثقافة هولندا ومفارقات حياتها اليومية. ورغمَ إن الكثير من الناس تتباعد وتتخاصم وتفترق بسبب إختلاف الثقافات، لكني مع ذلك حاولت أن أقرب بعض المسافات بيني وبين ثقافة الآخر المختلف. ومن خلال هذا تعلمتُ الكثير وإكتسبت العديد من المهارات، وعرفتُ إن البساطة هي الطريق الذي يقربني من الناس.

في الحقيقة أردت أن أقول هنا، بأني رغم هذه السنوات التي أمضيتها في الكتابة، لا أعتبر نفسي كاتباً محترفاً بالمعنى المتعارف عليه، فأنا رسام أكتب إنطباعاتي عن هذا العالم الذي أعيش فيه، وبمعنى آخر أحاول رسم إنطباعاتي بالكلمات، ببساطة ودون تعقيدات. وفي المدى تطورت كتابتي وتحررت حروفي وصرتُ أنظر الى الأشياء والتفاصيل من زوايا مختلفة وجديدة وغير متوقعة. وهنا فطنتُ الى قيمة النص المقتضب دون زوائد ولا حشو أو بهرجة. لذا لا يسعني سوى أن أُقَدِّرَ حقاً هذه المساحة التي تبدو صغيرة في الجريدة، لكنها فتحت أمامي نافذة كبيرة تطل على العالم، حيث راقصت عشب الحدائق وتأملتُ لوحات المتاحف وإنسجمتُ مع ناس من بلدان مختلفة، انطلقتُ في شوارع هذه المدينة باحثاً عن أفكار جديدة، ومضيت بين حقول ذلك الريف الرابض على بحر الشمال للكتابة عن الفلاحين المنشغلين بإعداد السمك المدخن. سافرت لرؤية لوحات في أماكن قصية وإنغمست بين مزارع الورد الهولندي، تأملتُ البحارة بوجوههم الحمراء التي لوحتها الشمس وراقبت القرويين وهم يقطعون الأخشاب ويهيؤون الحطب لشتاءهم القادم. هنا كتبتُ عن أكثر من مئة متحف وعشرات المدن، ونمتُ في أكواخ خشبية وسط الغابات التي كتبت عنها وقضيت ليال في أكياس النوم في مخيمات لامس فيها العشب جسدي وروحي.

سلاماً للجريدة التي فتحت لي أبوابها، ومحبة لمن صنع وأسس هذه المساحة التي صارت رئة أخرى نتنفس من خلالها الكلمات بدلاً من الهواء، ونتعرف على الصحافة الحرة. لا شيء يعلو على الكلمة الصادقة، ولا شيء فوق النوافذ المفتوحة نحو الأفق، وليس مصادفة إن جريدتنا اسمها المدى، فهي فتحت لنا منفذاً وجعلت لكلماتنا أجنحة تطير بها نحو المدى.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top